قراءة يمنية لمقابلة ولي العهد السعودي
مصطفى النعمان
بعد الانقلاب الذي قاده الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي في الـ13 من يونيو (حزيران) 1974 قرر والدي الأستاذ أحمد محمد النعمان الاستقرار في بيروت والانسحاب من الحياة السياسية ليتفرغ لكتابة مذكراته، لكن خططه تغيرت بعد اغتيال أخي محمد في الـ28 من يونيو 1974 فطلب من العاهل السعودي الراحل الملك فيصل السماح له بالاستقرار في السعودية، ولم تمض سوى ساعات قليلة حتى جاءت الموافقة. وبعد أيام انتقل إلى جدة مع عدد من أفراد الأسرة ضيفاً على حكومتها، حتى أجبره المرض على الانتقال لتلقي العلاج في جنيف إلى حين وفاته في الـ27 من سبتمبر (أيلول) 1996.
خلال فترة إقامتي مع والدي ثم بدء العمل فيها بعد تخرجي في كلية الهندسة كانت المملكة تشهد نهضة غير مسبوقة في القطاعات كافة لرفع مستوى الخدمات، وأصبحت كل مدنها مساحات مفتوحة للنشاط الذي يسابق الزمن مستفيدة من الإيرادات التي كانت ترتفع مع الصعود المذهل في تلك المرحلة لاحتياج العالم إلى البترول مصدراً للطاقة.
ولكن التحولات الاجتماعية سارت بوتيرة بطيئة مقارنة بالنهضة العمرانية السريعة ومشاريع البنى التحتية الضخمة، وهو ما انتبهت إليه الحكومة السعودية فتوسع الإنفاق على مشاريع التعليم في عهد الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز، وكذلك مشروع الابتعاث إلى الجامعات الأميركية والغربية الذي بلغ ذروته في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
ازدادت أعداد الخريجين ذكوراً وإناثاً، ولكن القيود الاجتماعية كانت كابحاً حاولت الحكومة التعامل معه بهدوء وحرص شديدين، إذ كان كثيرون يرون ترك الأمر للزمن لإدخال متدرج وبطيء للقوانين التي تسمح وتسهم في إطلاق الطاقات الشابة خصوصاً المرأة، وعمد الملك عبدالله إلى اتخاذ قرار مشاركة المرأة في مجلس الشورى للمرة الأولى في تاريخ المملكة، وظل الناس ينتظرون مزيداً من الإجراءات في ذلك السياق.
كان الملك سلمان من موقعه أميراً لمنطقة الرياض يتابع عن قرب ويراقب بعين فاحصة كل التحولات السكانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تمر بها بلاده، وكان يدرك من موقعه مكامن الضعف والقوة، فلما قررت مشيئة الله أن يتولى حكم البلاد بعد وفاة أخيه الملك عبدالله شكل ذلك نقطة تحول تاريخي، إذ كان الملك الجديد يدرك أن البنية التعليمية أفرزت أجيالاً من الشابات والشبان المؤهلين لإدارة البلاد، وكان يعلم أن الإنفاق على التعليم داخل البلاد وخارجها نتج منه نمط تفكير جديد، لكنه مقيد بالكوابح الاجتماعية والتفسير الديني المتعسف والمناقض لمسار التطور الطبيعي للمجتمع السعودي واحتياجاته.
كان الملك سلمان مقتنعاً بحكم تجربته التاريخية الطويلة بأهمية التسريع في عملية اتخاذ القرارات من دون الإخلال بالقواعد العامة للحكم، وبما يضمن عدم حصول فراغ أو اضطراب إداري، لأن الهدف المرجو هو استقرار النظام إدارياً ومنحه فرصة النمو المستمر والمستدام، ليعوض سنوات طويلة من الركود والتباطؤ في نهوض المجتمع، بما يليق مع الإمكانات التي تتمتع بها المملكة وتساعدها في تبوؤ المكانة التي تتناسب مع قدراتها البشرية ومواردها الطبيعية.
كان الملك سلمان يدرك أيضاً أن النهضة التعليمية في بلاده أفرزت أجيالاً من المؤهلين القادرين على تحمل أعباء المتغيرات التي يريدها للمملكة، وكان مستوعباً أن مثل هذه التحولات التاريخية تتطلب دماء شابة ممتلئة بالحيوية والجرأة والحماسة، فوقع اختياره على الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد ثم رئيساً لمجلس الوزراء، وكان قراراً شجاعاً ومفاجئاً لأنه جاء على غير ما اعتاد الناس في مسألة ولاية العهد، لكن الزمن أثبت بعد نظره وحكمته وعمق تجربته.
وقبل أيام تابع العالم باهتمام مقابلة أجرتها محطة “فوكس نيوز” الأميركية الشهيرة مع ولي العهد السعودي أفصح فيها عن حنكة قائد شاب تمكن من إدارة تحولات مذهلة في فترة قياسية وفي كل مجالات الحياة، ويكفي أنه قاد أكبر تحول تشهده بلاده ولا يقل أهمية عما فعله جده الملك المؤسس عبدالعزيز حين وحد تلك الرقعة الجغرافية الشاسعة وقبائلها المتحاربة تحت علم واحد، وفعل الأمير محمد كل ذلك من دون إثارة ولا إرباك لحياة الناس، وأثبت بهذا القرار أنه كان يعلم المدى الذى بلغه ركود المجتمع وحاجته الملحة إلى بعث الحياة فيه.
بعد تصميمه على ضرورة إطلاق القوة الكامنة في المجتمع، وقراره بإلغاء القيود كافة التي كانت تكبح مشاركة المرأة في العمل إلى جوار إخوانها كان كثيرون يسألونني عن انطباعي بعد كل زيارة إلى المملكة وكان ردي عليهم “أصبح المجتمع السعودي مجتمعاً طبيعياً لم يعد فيه وجود للاستثناءات إلا ما يتعارض مع القواعد العامة ونظام الحكم”، وهذا في الواقع أمر سيشهد التاريخ أن ولي العهد السعودي حققه بسرعة مذهلة وجرأة نادرة، لأنه يمتلك معرفة ونظرة متقدمة جداً وجادة وثاقبة لما تحتاج إليه بلاده.
وبالعودة للمقابلة التلفزيونية شاهد كثيرون أن رؤية ولي العهد ليست محصورة فقط ببلاده، بل لمحيطه الأقرب وللمنطقة كله، ولما يحتاج إليه العالم من تعاون واستثمار مشترك يسمح بالاستقرار وتبادل المنافع من دون محاولة للهيمنة وفرض المواقف.
بطبيعة الحال فإن الجزء الأهم بالنسبة إلي كعربي وكيمني كان ما ذكره ولي العهد السعودي حول ثلاث قضايا: فلسطين وإيران واليمن.
في ما يخص العلاقات مع إسرائيل ظهر أنه ليس أمراً عاجلاً لدى صانع القرار السعودي، وأعاد تأكيد أنها مرتبطة بشروط أعلنتها الرياض مراراً.
ثم أظهر حرصه على الاستمرار في تطوير العلاقات مع إيران وأنها تتحسن باستمرار، وعبر عن رغبته في أن تصبح عنصر استقرار في المنطقة بعد أن كانت مصدر قلق لعواصم عربية كثيرة، وأكد أن الفرصة سانحة لها كي تصبح لاعباً أساساً وعاملاً مساعداً في الاستقرار والتنمية.
وعن اليمن فكان واضحاً تشديده على أن وقف الحرب يمكن أن يسهم في ضخ الاستثمارات السعودية فيها بما يسهم في تحقق السلام، وهو من دون شك يدرك أن تحريك عجلة التنمية والاستثمار هو الذي سيجلب الاستقرار ويفتح أبواب الاتفاق السياسي المستدام.
لقد كانت المقابلة في كل جزئياتها دليلاً إضافياً على نضج سياسي وإدراك عميق للتحولات، وفرصة لإعلان مواقف واضحة تجاه كل القضايا التي تهم الإقليم وشعوبه.