القضية الجنوبية ومعضلة الخط المستقيم 3 و 4
د. عيدروس نصر ناصر
قبل مواصلة الحديث عن قضية تنوع البدائل وتعدد الخطط، ومخاطر التمسك بالبديل الواحد والخطة الواحدة، وهو ما أسمينها بمعضلة “الخط المستقيم” أود الإشارة إلى أن هذا المفهوم، لا يتعلق بالهدف الذي لا جدال حوله، فالهدف الذي نتحدث عنه هنا والمتمثل باستعادة الدولة الجنوبية بحدود 21/ مايو/ 1990م قد رسمته دماء وأرواح الشهداء الجنوبيين منذ صالح أبوبكر بن حسينون وحسين الطفي وسالم درعة وناجي محسن وصالح السيلي وغيرهم الآلاف من شهداء معركة الدفاع عن عدن، حتى علي الصمدي وعلي ناصر هادي وجعفر محمد سعد وأبو اليمامة وسعيد تاجرة القميشي وصالح الفلاحي وأحمد سيف اليافعي وثابت مثنى جواس ومن قبلهم ومن بعدهم الآلاف ممن رسموا خريطة الحل بدمائهم وأرواحهم.
نحن نتحدث هنا عن الوسائل فقط والوسائل دائما وأبدا قابلة للتغيير والتبديل والتعديل تبعاً لنوع المهمات وظروف الزمان والمكان، وتبعاً لطبيعة المعطيات القائمة على الأرض وللظروف الداخلية والخارجية، أما الأهداف فلا حديث فيها بعد أن قررها الشعب الجنوبي منذ ما يزيد على عقدين، تمسكاً بما كان قد أعلنه يوم 21 مايو 1994م.
وبالرجوع إلى قضية الوسائل المتعددة، والخطط البديلة نعود إلى التذكير بأن التمسك بالخيار الواحد وانتظار الحل من خلال هذا الخيار (الوحيد الأوحد) إنما يمثل قبولاً مسبقاً بالهزيمة مع سبق الإصرار، خصوصاً بعد أن يكون هذا الخيار قد مرَّ بفترة اختبار كافية أثبتت عدم جدواه وبرهنت أن الخيار الوحيد قد يتحول إلى وبال على شعبنا الجنوبي وأبنائه.
نحن لا نقصد هنا خيار بعينه، لكننا نتحدث في العموم عن عدم تعدد الخيارات والبدائل، والاكتفاء بأحدها دون التفكير بتغيير هذا الخيار أو أرفاقه بأكثر من خيار.
لقد تحمس الجنوبيون لاتفاق الرياض لسببين رئيسيين: الأول ويتمثل بتوقيف الحرب على الجنوب وصيانة الدماء والأرواح الجنوبية التي أراد لها مهندسو الحروب أن يطحن بعضها بعضاً ليحصدوا هم ثمرة هذا التطاحن، والثاني وعد الطرف الآخر (الشرعي حينها) بحل أزمة الخدمات ودفع المرتبات وإعادة الأوضاع في عدن إلى حالتها الطبيعية كما كانت قبل “غزوة خيبر” الشهيرة، ولقد توقفت الحرب حقاً وكان ينبغي أن تتوقف حتى بدون اتفاق لأن الصمود الذي أبداه الشعب الجنوبي قد برهن أنه من المستحيل كسر الإرادة الفولاذية التي هزمت أقوى جيش وأشرس مليشيا في التاريخ اليمني، لكن ماذا أصبح مصير الخدمات والمرتبات؟ لقد ازدادت أزمة الخدمات سوءًا وتوقفت المرتبات، وحينما يدفع مرفقٌ من المرافق مرتباً لأحد الأشهر يتحول الموضوع إلى خبر عاجل يتصدر عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية كالأخبار الاستثنائية مثل غزو كوكب جديد في الفضاء أو إنتاج صاروخ نووي جديد أو ابتكارٍ علمي يقلب مسار التاريخ البشري وليس كخبر يتعلق بواجب روتيني تأخر عن موعوده عشرات الأشهر ويفترض على المقصر فيه أن يكون عرضةً للمحاسبة.
وهكذا فإن الأشقاء الشماليين (والحديث هنا عن النخبة السياسية الشمالية المهيمنة على الحكم)، سواءٌ وهم في لحظات الضَعْف أو مواسم القوة لم يكفوا قط عن االتشبث بسياسة البدائل والخطط المتعددة، وقول الشيء وفعل عكسه تاماً، ولن أتعرض لما جرى مع وثيقة العهد والاتفاق (عمّان فبراير 1994م) فقد سبقت الإشارة إليها، لكن علينا أن نتذكر أن الإعلام الشمالي الذي يقول القائمون عليه أنه داعمٌ للشرعية لم يكف عن لعن الجماعة الحوثية منذ خطفها للدولة واحتجازها لرئيس الجمهورية وكل أعضاء حكومته صبيحة 21 سبتمبر،(مع التغيير الذي شهده هذا الإعلام في الحملة العدائية تجاه الجنوب والإمارات العربية المتحدة بالذات بعد إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي) لكن الواقع العملي كان يقول أنهم لا يحاربون الحوثيين ولا يمانعون من وجودهم بعد أن وقَّعوا معهم اتفاق السلم والشراكة وسلموهم العاصمة والمحافظات الشمالية بلا أية مقاومة تذكر، بل وأكملوها في العام 2019م بأن سلموا هذه الجماعة المحافظات والمديريات الاستراتيجية التي كان يسيطر عليها “الجيش الوطني” في كل من محافظة صنعاء، وفرضة نهم الاستراتيجية ومديريات محافظة البيضاء وكل محافظة الجوف وأغلبية محافظة مأرب، ومعها ثلاث مديريات في محافظة شبوة، التي بقيت تحت سيطرة الحوثيين ثلاثة أشهر ونيف، حتى تم تحريرها من قبل قوات العمالقة الجنوبية في معركة لم تستمر 12 يوما.
إنها فلسفة الفصل بين الأقوال والأفعال، ونظرية التقية السياسية ، والعمل على الخطتين (أ) المعلنة لفظيا، و (ب) غير المعلنة لكنها ما يتم العمل به على واقع الحياة العملية.
فما الذي تعلمه الجنوبيون من الأشقاء الشماليين في معنى وأبعاد وتكتيكات الخطة (ب)؟؟
ذلك ما سأتوقف عنده في لقاء قادم.
القضية الجنوبية ومعضلة الخط المستقيم (4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا بد لنا ونحن نناقش مسألة هامة ومعقدة لكنها حساسة ومصيرية وهي قضية العلاقة الجدلية بين الهدف والوسيلة أو بين القضية الاستراتيجية والوسائل التكتيكية، لا بد لنا من التأكيد على جملة من الحقائق التي هي في نظري الشخصي (على الأقل) وبلغة الرياضيات نفسها مسلمات أو بديهيات لا تقبل المناقشة ناهيك عن التفنيد والدحض وأهم هذه الحقائق:
1. إن الاتفاقات الموقعة بين الشرعية الشمالية (المتمسك قادتها وقواعدها بـ”الوحدة المعمدة بالدم”) وبين الطرف الجنوبي ممثلاً بالمجلس الانتقالي الجنوبي، هي اتفاقات مؤقتة، وليست حالة دائمة أو قضايا استراتيجية، ومن هنا فإن من المفترض أن يكون التقيد بها مرهوناً بمدى ما تحققه للشعب الجنوبي من مصالح وما تحل له من معضلات، وهذا ليس مطلباً تعجيزياً تجاه أحد ولا تمييزاً للجنوب عمن سواه، ولكن لأن أرض الجنوب وشعب الجنوب وثروات الجنوب هي مادة حُكم وتحَكُّم الطرف الشرعي الذي لا يستطيع تأمين مديرية أو مدينة شمالية لممارسة عمله من هناك وسيكون من غير المنطقي أن يقيم الحكام وينشطون ويمارسون مهماتهم من على أرض لا يستطيعون أن يؤمنوا لأهلها أبسط متطلبات البقاء على قيد الحياة ثم يدعون أنهم من أهل هذه الأرض.
2. إن الشراكة الجنوبية في سلطة الشرعية هي الأخرى عملٌ مؤقتٌ ولا يُلْزَمُ طرفاه بالتقَيُّدِ به إلى الأبد طالما تحول من وسيلة لتنفيس الضغط على شعب الجنوب والحد من تدهور حياته المعيشية والخدمية، تحول إلى هراوة تلسع ظهور الجنوبيين بنيران حرب الخدمات وتسمم حياتهم بسياسات التجويع، وتعبث بثرواتهم بمنظومة الفساد الممنهج، ومن هذا المنطلق أدعو الزملاء في قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي وشركاءهم إلى إبلاغ الشركاء الإقليميين والدوليين بما في ذلك الشركاء الشماليين، بعدم جدوى الاستمرار في هذه الشراكة القاتلة لشعب الجنوب، وسيكون من المشَرِّف للمجلس الانتقالي الجنوبي الخروج من الحكومة ومن مجلس القيادة، ما لم تصبح هاتان المؤسستان أداتين في يد الشعب الجنوبي لتنظيم حياته وتطوير مستوى معيشة أبنائه واستعادة الحقوق الحياتية البديهية وأهمها حق الحياة، وحق التقاضي العادل وحق الأمن وحق العمل والحصول على دخل عادل ومضمون، وحق العلاج الطبي والتشافي والتعليم وغيرها من الحقوق التي ليست بحاجة إلى اتفاقيات لأنها ملزمة دستورياً وقانونياً ومنطقياً وأخلاقياً لكل سلطة في كل أرجاء الدنيا.
3. إن الطرف الشمالي الموقِّع على هذه الاتفاقيات والمخرجات لا يؤمن بالقضية الجنوبية (حتى كقضية نظرية) ناهيك عن الاقتناع بحق الشعب الجنوبي في استعادة دلته وحكم نفسه بنفسة واختيار مستقبل أجياله الحر، وإلا لما لجأ هذا الطرف إلى الاستنجاد بمهندسي اللغة السياسية من الأشقاء لإنقاذهم بعبارات زئبقية خالية من المعنى، ومنها ما أشرنا إليه في تناولات سابقة عما يسمى بـ”الإطار التفاوضي” عملية “السلام الشامل” و” الحل النهائي” وما إلى ذلك ومن هنا فإن الرهان على حل عادل للقضية الجنوبية من قبل هذا الطرف هو رهان على الوهم والسراب ليس إلا.
4. إن حل القضية الجنوبية وبالتحديد الحل القائم على استعادة الشعب الجنوبي لدولته، لا يمكن أن يتحقق من خلال التوقيع على تلك الاتفاقات الهلامية ذات المفردات المطاطة التي تقبل عشرات التفسيرات ليس بينها تفسيراً واحداً يعني حق الجنوبيين في استعادة دولتهم، وإن البديل الأوحد لهذا الخيار هو أن يكون هناك اتفاقيات ناتجة عن تفاوض ندي ثنائي (شمالي-جنوبي) ويُفَضَّل أن يكون برعاية ومشاركة إقليمية ودولية، هذه المفاوضات الثنائية تُكَرَّسُ فقط لمناقشة حل معضلة احتلال الجنوب واختيار الطرق المناسبة للخروج من مأزق “الوحدة الفاشلة” واستعادة الدولتين، وفي هذه الحالة لا بد أن تكون مخرجات تلك المفاوضات مُلْزَمَةً لطرفيها ومشفوعةً بشروط جزائية لضمان التقيد بما تتضمنه من التزامات وواجبات وحقوق للطرفين، وحيثُ إن الطرف الآخر مستعيناً بالضغط الدولي والإقليمي على الجنوبي لم يبد بعد أي استعداد للاتجاه نحو هذا النوع من المفاوضات الثنائية، فإن الأمر يقتضي من القيادة السياسية الجنوبية أن تضغط من أجل الذهاب إلى هذا النوع من المفاوضات بدلاً من الرهان على مفاوضات “حل نهائي” قد لا تتم بين الأشقاء الشماليين بشأن مشكلة انقلاب جزء منهم على الجزء الآخر وهي المفاوضات التي لا يرغب الطرفان في الذهاب إليها للتهرب من حل القضية الجنوبية.
لماذا نتحدث عن الخطة (ب) ؟؟
في جميع القضايا الإشكالية والصراعات السياسية وحينما يذهب الطرفان المتنازعان للتفاوض يدخلان وبيد كل منهما أجندته السياسية التي تتضمن موقفه من الإشكالية الرئيسية وتفسيره لمضمون المشكلة ومقترحاته للوصول إلى حل للقضية، ولأن الرؤى مختلفة والمواقف متعارضة والمقترحات متباينة وأحيانا، بل وفي الغالب الأعم متناقضة بتناقض المصالح والأهداف فإن كل طرف يذهب للتفاوض ولديه العديد من الخيارات والبدائل التي من خلالها يمكنه الوصول إلى الغاية الرئيسية التي يسعى لتحقيقها.
وإذا كنا قد أشرنا أن تاريخ العلاقات الشمالية-الجنوبية الحديثة وربما الوسيطة والقديمة قد اتسم بالصراعات الدائمة، وظل الطرف الشمالي في الأغلب الأعم يتحدث عن أمور وأهداف ويضمر ويسعى لتحقيق غيرها، فهو إنما يعتمد فلسفة الخطة (ب)، وهذه ليست ميزة شمالية فقط بل هي سياسة متبعة في معظم الصراعات والمواجهات والتباينات السياسية في كل العالم.
والخطة (ب) كما هو معروف للجميع هي الخطة البديلة للبرنامج أو النص أو مشروع العمل الرئيسي الذي يعلنه طرف سياسي أو عسكري أو تتوافق عليه عدة أطراف سياسية أو عسكرية متخاصمة أو متوافقة، وكثير من الكيانات السياسية والعسكرية والأمنية، بل إنه وحتى الكيانات والمؤسسات الاقتصادية تضع أكثر من بديل للحالات التي تخطط لمعالجتها والمشاريع التي تسعى لإنجازها، وقد يشمل ذلك الخطة (ب) و (ج) و (د) . . إلخ، تبعاً لمعطيات القضية المطروحة والمهمات المرسومة والأهداف المعلنة، أو غير المعلنة.
وكما سبقت الإشارة فإن تجربة الجنوبيين مع الأشقاء الشماليين تؤكد بما لا يقبل الشك أو الالتباس أن كل الاتفاقات والمعاهدات التي جرى التوقيع عليها بين الجنوب والشمال كانت في كثير من الأحيان توقع، لغرض غير الغرض الذي يعلن عنه الطرفان بمشاركة أو بدون مشاركة الطرف الوسيط أو الميسر.
وكي لا نغرق مطولاً في تقييم تجربة 22 مايو المؤلمة من المهم أن ندرك أن الطرف الشمالي (والمقصود هنا نظام الجمهورية العربية اليمنية برئاسة علي عبد الله صالح) كانت لديه خطته (ب) وهو يوقع على اتفاقية 30 نوفمبر 1989م وبيان 22 مايو 1990م، وملخص هذه الخطة هو التهام الجنوب والقضاء على دولته وتحويل الجنوب إلى غنيمة حرب له ولأتباعه وشركائه ، سواءٌ بالسلم (المستحيل) أو بالحرب وهذا ما جرى مع إشعال حرب 1994م العدوانية على الجنوب وما ترتب عليها من نتائج تدميرية على الجنوب والجنوبيين مما يعلمه القاصي والداني، ولا أدري (ولا أتصور) أن الطرف الجنوبي كان لديه الخطة (ب) وهو يوقع على الاتفاقية والبيان المذكورين.
إن الطرف الجنوبي اليوم وهو يجرب تذوق الثمرة المرة للشراكة البائسة مع الأشقاء في الجمهورية العربية اليمنية (السابقة) ينبغي أن يكون لديه خطة أو أكثر كبديل احتياطي للاحتمالات المتوقعة التي ستلي فشل هذه الشراكة غير المتكافئة وغير المنطقية ونقول الفشل، لأن ملامحه تلوح في الأفق القريب.
أما ما فحوى الخطة (ب) فهذا ما سنحاول التوقف عنده في لقاء قادم.