رجل روسيا القوي وسباق الأحلاف
محمد خالد الأزعر
عندما سئل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في غير مناسبة، عن الحدث التاريخي الذي شهدته بلاده، وكان يود الحيلولة دون وقوعه، كان رده الفوري «انهيار الاتحاد السوفييتي». عموماً، ما زال الرجل يطوي بين جوارحه، أحانين قوية للحقبة السوفييتية، حتى إن ذكرها لا يأتي على لسانه، إلا مصحوباً بتعبيرات الأسى والحسرة.
في الزمن السوفييتي، كان بوتين مجرد ضابط في سلك المخابرات «كي جي بي»، ولو استمر ذلك الزمن، فلربما تقلب صاحبنا بين المناصب، داخل هذا السلك أو خارجه، إلى أن بلغ أجله بهدوء، دون أن يعرف الكثيرون عنه شيئاً.
فقط بعد اختفاء التجربة السوفييتية، وما تأتى عنه من توابع وتحولات داخلية وخارجية مزلزلة، لمع اسم بوتين، وصعد نجمه في مختلف الآفاق. هذا يعني أن انحيازه لتلك التجربة، لا يصدر عن أهواء أو عواطف ذاتية بحتة.. بل يمثل ترجمة لرؤية استراتيجية واسعة المدى لحال دولته ومآلها، مفادها طبقاً لتصريحاته وأقاويله، أن زوال ذلك العهد هو «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين».. فقد تم تدمير التوازن الدولي، وأعلن الغرب عالماً أحادي القطب، وراح يطور سيناريوهات لتأجيج الصراعات في أكثر من مكان، بما في ذلك الجمهوريات التي خرجت من العباءة السوفييتية، ويسعى لتنفيذ سياسة الإملاءات في جميع المجالات. وهو يعتقد أن ما يحدث بين روسيا وأوكرانيا، يجسد أحد تجليات هذه السياسة.
أغلب الظن أن استشعار بوتين وفريقه القيادي لهوان موسكو وتراجع مكانتها الدولية، الأمنية العسكرية بخاصة، بعيد العهد السوفييتي، قد زاد أضعافاً بفعل ديمومة حلف «الناتو»، بل وتوسعه وتمدده شرقاً، حتى بات يشكل تهديداً عضوياً على التخوم الروسية.. ذلك مقابل الافتقاد لكتلة مضادة بعد زوال حلف «وارسو»، الذي مارس دوره في معادلة توازن القوى بين المعسكرين الشرقي والغربي، بين عامي 1955 و1991.
ولنا أن نتصور حجم الغضب وأحاسيس الخطر التي كانت، ولعلها ما زالت، تتأجج في موسكو، كلما رأت الكثير من شركائها السابقين في وارسو وبعض الدول المحايدة، وهم يلتحقون تباعاً بالمعسكر المضاد.
تأسيساً على هذا التقدير، والهواجس الموصولة به، سعت موسكو ما أمكنها إلى معالجة نقيصة افتقارها لأطر التحالفات القوية. أطلت محاولة الاستدراك هذه قبيل زعامة بوتين، ثم تأكدت أكثر بعد صعوده إلى قمة السلطة. وكانت البداية مع تأسيس ما عرف بمعاهدة الأمن الجماعي، التي تم توقيعها في طشقند عام 1992، وضمت بعض الجمهوريات التي انبثقت عن تفكك الاتحاد السوفييتي.
موضوعياً، لا يعد هذا التحالف بالقوة ولا بالصلابة التي عرفت عن حلف «وارسو». ظهر هذا التفاوت واضحاً لدى اندلاع اشتباكات مسلحة على خلفية خصومات وتباينات عرقية بين القرغيز والأوزبك، وكذا بين الأرمن والكازاخ.. فمع أن هؤلاء جميعاً شركاء في المعاهدة، إلا أن موسكو لم تتمكن من احتواء احتكاكاتهم واصطكاكاتهم البينية الخشنة، بالحسم الذي غلف سلوكها في حقبة وارسو.
من الواضح أيضاً أن بوتين، بمرجعيته الاستخبارية وتصرفاته الواقعية، يدرك تأثير مرور كثير من المياه في نهر العلاقات الدولية بين زمني معاهدتي وارسو وطشقند، وما يعنيه ذلك بالنسبة لمستوى السيطرة الروسية على الحلفاء. فهو يطمع في تكرار نموذج وارسو في مواجهة «الناتو»، حين كان لموسكو كلمة لا ترد، لكنه يعمل على ذلك بروية وتؤدة لا تزعج الشركاء. نفهم ذلك من دعوته لهم (موسكو – 16/5/2022) بالتصدي لتوسع «الناتو»، وتثنية حليفه الصدوق الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو على هذه الدعوة بالقول «لا ينبغي أن تواجه روسيا وحدها توسع الناتو، وبدون حشد سريع لمنظمة الأمن الجماعي في جبهة موحدة، سوف تتضرر كل بلدانها».
تقديرنا أن بوتين ومحازبيه في روسيا ومحيطيها الإقليمي والدولي، يعلمون أن أشواقهم وطموحاتهم لإعادة إحياء القطبية الثنائية، أو تدشين التعددية القطبية في السياق العالمي، لن تتحقق باستخدام وسائل وآليات زمن الحرب الباردة الأولى وحدها.
ونحسب أن هذه القناعة هي التي تحفز الرئيس الروسي على بناء أنماط من التحالفات الناعمة شكلاً، لكنها بالغة التأثير موضوعاً، ومنها بلا حصر العلاقات الاستراتيجية المتميزة في كل المجالات، ربما باستثناء الجوانب العسكرية الصارخة، مع القطب الصيني، والحرص على تعزيز صيغة «بريكس»، التي قد تفعل فعلها في إفشال سياسات العزل والمقاطعة الغربية، القائمة أو المحتملة ضد روسيا والصين بالذات، وكسر هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي، وربما هزيمته بالنقاط.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني