مقالات

روسيا وجها لوجه مع إرث بريغوجين


التحقيق في مقتل “طباخ بوتين” سينتظر من يروي قصة مماثلة عن الذي قتل حفيظ الله أمين

طوني فرنسيس


“سيدفعون الثمن” قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في رد فعله الأول على التمرد الذي قاده “طباخه” يفغيني بريغوجين ضد الكرملين، وقاد خلاله منظمته العسكرية “فاغنر” إلى احتلال روستوف مقر القيادة الروسية في مواجهة أوكرانيا، متوجهاً إلى موسكو، قبل أن يتدخل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو ويضع صيغة اتفاق تغادر بمقتضاه “فاغنر” وقيادتها روسيا إلى بيلاروس.


كان الاتفاق يعني عملياً إنهاء نشاط بريغوجين في روسيا من دون أن يلغي الاستفادة من “فاغنر” في المواجهات الروسية المرتبطة بالحرب الأوكرانية، أو سياسة توسيع النفوذ الروسي في الخارج وأفريقيا خصوصاً، وطوال شهرين لم يبخل المحللون الروس في نشر تحليلات عن تحويل مقاتلي “فاغنر” إلى “بعبع” على الجبهة الغربية في مواجهة بولندا، وأثار ذلك قلقاً جدياً في بولندا نفسها. وفي الوقت عينه، كان انتشار قوات بريغوجين في أفريقيا مدعاة فخر للكرملين، فمن مالي إلى أفريقيا الوسطى وأخيراً إلى النيجر، كانت موسكو تحتفل بسقوط النفوذ الفرنسي، والغربي عموماً، وترحب بتوجه عسكريي تلك البلدان إلى توطيد العلاقات مع روسيا، وفي كل ذلك كانت “فاغنر” حاضرة كممثل للقوة الروسية وللنفوذ الروسي العسكري والاقتصادي والتجاري.

لم تتحدث روسيا الرسمية عن دور لبريغوجين خلال احتفائها بـ”الانتصارات” الأفريقية، لكن الرجل حرص على إبراز علاقاته بالقارة، مرة في بطرسبورغ أثناء القمة الأفريقية – الروسية ومرة أخيرة قبل مقتله بيومين خلال زيارة إلى مالي، حيث قيل إنه التقى وفداً من قوات “الدعم السريع” السودانية نقل إليه سبائك ذهبية وفيها سجّل شريط الفيديو الصحراوي الأخير الذي يفتخر فيه بدوره، باسم روسيا العظيمة، في القارة السوداء.

كان متوقعاً بعد مقاطعته في بلاده إثر محاولة التمرد وإغلاق مؤسساته الإعلامية والتجارية أن يعمل بريغوجين على تعزيز حضوره في الخارج، تحديداً في دول الانقلابات الحديثة حيث يتوافر له إمكان الوصول إلى ثروات طائلة، وكان ذلك سبباً إضافياً لإثارة قلق وغضب خصومه .

فرنسا هي أول هؤلاء الخصوم في أفريقيا، فالانقلابات وآخرها في النيجر تستهدفها مباشرة، وبريغوجين يأتي باسم روسيا ليحل محلها عسكرياً واقتصادياً.

الولايات المتحدة الأميركية كانت فرضت عقوبات على المنظمة الروسية للمرتزقة وهي تراقب بحذر توسع النفوذ الروسي في القارة السوداء.

وفي لائحة الخصوم تأتي أوكرانيا التي خاضت “فاغنر” معارك دموية ضدها وهي المنظمة المتهمة بارتكاب مجازر ضد الإنسانية على الأرض الأوكرانية.

لكن الخصم الأكبر والمعني مباشرة بنشاط بريغوجين هي الدولة الروسية التي تتهمه بالخيانة منذ يونيو (حزيران) الماضي، وتوعّد رئيسها بوتين بـ”دفع الثمن”.

هؤلاء الخصوم يرغبون جميعاً في التخلص من “الطباخ المزعج”، وهم، لا شك، لم ينزعجوا من تغييبه عن المشهد وحتى انتهاء التحقيقات التي وعد بها بوتين، لا يستبعد أحد مسؤولية الكرملين عن التخلص من “الطباخ” الذي أزعجه في خضم مواجهة يصفها بالكونية ضد أوكرانيا ومن ورائها حلف الأطلسي وعلى رأسه الولايات المتحدة.

تخطر بالمناسبة في البال قصة تخلص الاستخبارات السوفياتية من الحاكم الأفغاني حفيظ الله أمين نهاية عام 1979، ففي ذلك الوقت تحدى أمين من موقعه على رأس الحزب الشيوعي الأفغاني (الديمقراطي الشعبي) القيادة السوفياتية وطلب تغيير السفير وممثلي الأجهزة السوفياتية في كابول بعدما أعدم “أستاذه” على رأس الحزب نور طرقي، وردّت القيادة السوفياتية بأن اتخذت قراراً بتصفية أمين وأرسلت لهذه الغاية “طباخاً”، هو في الحقيقة ضابط في الاستخبارات الخارجية ليعمل في قصر أمين ويقوم بتسميمه في النهاية.

في حالة بريغوجين قُتل “الطباخ” ولا يرجح أن يعرف القاتل وتفاصيل ما جرى سوى بعد أعوام عندما تتاح للمعنيين كتابة مذكراتهم عن تلك الساعات الأخيرة من حياة مؤسس “فاغنر”، مثلما كتب اللواء ليونيد بوغدانوف مدير الـ”كي جي بي” في كابول قصة الطباخ الذي قضى على أمين.

انتهت “فاغنر” بصيغتها الأولى في سوريا منذ تمرد يونيو، إذ أبلغت موسكو رئيس النظام السوري بشار الأسد على الفور بتقنين علاقته مع “الشركة” لتؤول مسؤولياتها الأمنية إلى الجيش الروسي الموجود بكثافة في سوريا، ومنذ التمرد نشطت الحكومة الروسية مباشرة في أفريقيا على طريق الإمساك مباشرة بالأدوار التي بدأتها منظمة بريغوجين. لقد قدمت هذه المنظمة نفسها على أنها تجسيد للدولة الروسية وتعامل معها القادة الجدد في أفريقيا الفرنسية على أنها روسيا، وعندما قيل لهم إن “فاغنر” مجرد مرتزقة، هم الذين عانوا من المرتزقة الأوروبيين في ستينيات القرن الـ20، تمسكوا برأيهم ورددوا “أنهم روسيا المختلفة عن الغرب ومرتزقته”.

عشية مقتله في الطريق من موسكو إلى مقر عمله في سانت بطرسبورغ، كان بريغوجين الثائر على السلطة الروسية أمام تحدي تمثيلها والتحدث باسمها في أفريقيا، ساحة العمل الأخيرة المتبقية أمامه، لكن يبدو أن السلطة كان لها رأي آخر.

في مقالة نشرتها صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” حول التغيرات التي ستطرأ على التأثير الروسي في أفريقيا بعد مقتل مؤسس “فاغنر”، يتوقع الباحث الروسي ألكسي ماكاركين حلول شركات أخرى تابعة للدولة الروسية بدلاً من “فاغنر”، فهناك على حد قوله “هياكل روسية مرتبطة مباشرة بالإدارة العسكرية. وقد بدأت هذه العملية في عهد بريغوجين، حين قام نائب وزير الدفاع يفكوروف أخيراً بزيارة ليبيا للقاء المشير خليفة حفتر الذي عملت معه فاغنر بنشاط”.

في أفريقيا السوداء لا يميزون بين روسيا ومرتزقة بريغوجين، لكن هيكل “فاغنر” بدأ بالتصدع منذ التمرد في روستوف، فدعم الدولة الروسية للشركة الذي يقدر بمليارات الدولارات توقف بعد أحداث يونيو الماضي، والسياسة الأكثر احتمالاً الآن هي التآكل. “سيختار قادة محددون”، تقول الصحيفة الروسية، “استراتيجيات فردية للمستقبل… وسنجد انتقالاً إلى هياكل الدولة. سيكون كل شيء أكثر رسمية وتحت السيطرة”.

في الخلاصة ستنتهي مغامرة الجيش الروسي الرديف، مما يفتح الآفاق أمام التفكير بمصائر جيوش ومنظمة رديفة أخرى في الشرق الأوسط والعالم، وستجد روسيا الرسمية نفسها وجهاً لوجه أمام تحديات تحمل مسؤولية توسيع نفوذها مباشرة في الخارج وفي أفريقيا خصوصاً. فالعازل الذي بناه بريغوجين ووفره طوال ما يزيد على تسعة أعوام لموسكو، زال وانتهى مع مصرعه المدوّي .اندبنديت

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى