هكذا كُسر المعلم اليمني
ابتسام القاسمي
قبل أشهر كنت أمرّ في أحد شوارع العاصمة صنعاء؛ فمرّ من جواري رجل هزيل يقود دراجته النارية، وحين تمكّنت من تمييز ملامحه اقشعرّ بدني. لقد كان أستاذي في المرحلة الابتدائية، إنّه أفضل أستاذ درّسني الرياضيات في حياتي العلمية كلّها، وكان الصف بأكمله حينها، وعلى اختلاف مستوياتنا العقلية، مستوعباً المادة، وكنا نحبّ دخوله إلى الصف، بل ونتحلّق حوله إن وجدناه في أوقات الراحة. لقد أسّسنا بشكل قوي، وما زال مستمراً في تأدية رسالته.
معلمي اليوم مضطر للتوجه للعمل على دراجة نارية بعد انتهاء دوامه المدرسي، ليقتات من دخلها الهزيل كحال جسده المنهك. كان مكسوراً أمامي، وقد كَسرني كِسره؛ فأنا مثله لم أجد فرصة تليق بي، وازداد شعوري مرارةً لعجزي عن ردّ شيء من الجميل لمعلمي، الذي لا يزال يتذكرني بالاسم، وسألني بقلقٍ وحزنٍ عن حالي. معلّمي اليوم يمارس رسالته السامية معلّماً بلا راتب، فهل سمع العالم من قبل عن نكتة الموظف الحكومي، الذي يلتزم بمزاولة مهنته لأعوام مقابل أن يدفع هو للحكومة الأموال؟
ليست مزحة، لكنه منطق الجنون الذي يحكم اليمن منذ سنوات، وإن رفضت هذا فسيُحكم عليك بأنك خائن للوطن، وستفقد درجتك الوظيفية، وتُستبدل بأحد المتصيّدين لهروبك، وهم كثر يتمترسون في طابور المتطوّعين. وبالمقابل، أنت ملزم بدفع الضرائب والإتاوات لو فكرت بعمل خاص بك، إلى جانب وقتك الذي تهدره للدولة، فالسلطة القادرة على نفخ جيوب أتباعها، هي من تتعمّد تفقير المعلمين، لضخ المجتمع بالجهلة، وإنتاج مزيد من العبيد، فلا شيء كالجهل والفقر يُخضع الناس للظلم.
قبل بداية العام الدراسي الحالي انتشر منشور آخر على “فيسبوك” لمعلم قال فيه “أنا مدرس يمني… مرّت سنوات ولم أستلم مرتباتي، الديون تراكمت عليّ، لم أعد أملك شيئاً أبيعه إلا ضميري وقداسة مهنتي، لقد اعتزلت الخروج من بيتي حياءً من الناس، ومن العودة فارغاً في عيون أطفالي، يقال إن موعد العام الدراسي على بعد يوم واحد، وهذا ما يصيبني بالرعب الآن، كيف سأستطيع بهذا المنظر الرث، وهذه العيون الشاحبة، وهذه الأعباء المتراكمة، كيف سأستطيع أن أكون رسولاً!”. إذا كان هذا ما وصل إليه وضع المعلم الذي يفترض به أن يعلّم الأجيال ويلقّنهم الفكر والعلم والثقافة، فما الرسالة التي سيتمكن من تقديمها لجيل يرى الأوباش و”البلاطجة” والجهلة يعتلون مركبات فارهة، وقد اضطر للاختباء خجلاً في بيته، بينما تعتلي المنصات الكروش المتوّرمة بقدر فراغ عقول أصحابها، حيث تُثقلهم جيوبهم الممتلئة برزم أموال لا يعرفون عددها، ولا يحتاجون إلى ذلك؛ لأنّها تتجدّد دوماً.
لم يكن هذا أصعب وضع وصل إليه المعلم اليمني، فقبل أيام تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي نعياً مؤلماً للغاية، كتبه معلم، وجاء فيه “ابني الوحيد عمار في ذمة الله، قولوا للعالم إنّي عجزت عن إيجاد ستين ألف ريال لشراء علاج ابني”. كان النعي كفيلاً بتحويل يومنا إلى حزن مستعر، فبكينا معه ابنه وأبوته ورسالته التربوية، ولم يتبقَ لأحدنا قدرة على مواساته إلا بمزيد من الألم، فلا أمرَّ من قهر الأم إلا انكسار أب عاجز أمام احتياج أطفاله… وقد وصل العجز بالمعلم إلى هنا، وذلك على الرغم من ارتفاع أصوات المطالبين بصرف رواتب المعلمين، وعلى الرغم من تعالي “الهاشتاجات” المناصرة لهم، أكثر من سائر موظفي الدولة!
يوماً بعد يوم، يكثر عدد الآباء الذين يحلمون بأن يحتضنهم الموت برفقة أطفالهم، خشية أن تنهشهم الحياة من بعدهم، فكيف سنعلّم أبناءنا أن يحتموا بالأقلام لا البنادق؟ وأن ينهلوا من العلم والأدب، في حين لم يتبقَ لنا من مواضيع الشعر غير الندب والرثاء؟ كيف نعلّمهم الإيمان بالوطن والجوع كافر؟ وبالحرية وهم يرون الشبع للعبيد؟ والدين الذي باسمه سُلبت مرتبات العمال لتخمة النائمين؟ والحكومات التي وجدت للجبايات والسفر والتجارة باسم الوطن، ولغرض دفننا؟ وكيف نعلّمهم الصمود أمام كلّ هذا الجحود؟