جدلية المسؤولية السياسية والمسؤولية الأخلاقية
مصطفى النعمان
بعد اغتيال الشهيد محمد محمود الزبيري في الأول من أبريل (نيسان) 1965 قررت القوى السياسية والقبلية اليمنية اختيار أحمد محمد نعمان لتشكيل حكومة جديدة، قرر هو أن يشرك فيها شخصيات شابة كانت لها آراء ومواقف سياسية تتعارض مع توجيهات وتوجهات الحكومة المصرية، التي كان جيشها يقاتل مع الجمهوريين ضد المسلحين المنضوين تحت راية الإمامة بقيادة آخر أئمة اليمن محمد البدر رحمه الله.
وكانت مصر تقدم دعماً مالياً للحكومات اليمنية منذ قيام الثورة في 26 سبتمبر (أيلول) 1962، لأن اليمن لم يكن في ذلك الوقت يمتلك أي موارد كافية لسداد مرتبات موظفي الدولة، ناهيك بتنفيذ أي مشاريع حيوية، وكان كل هم الحكومات المتعاقبة هو تأمين الدفاع عن النظام الجمهوري بالموارد المتاحة إلى جانب المساندة المصرية مالاً وعتاداً.
انزعج الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من اختيار شخصيات معروفة بتوجهاتها الأيديولوجية مثل البعثي محسن العيني، واليساريين حسن مكي ومحمد سعيد العطار، فذهب النعمان لمقابلته في القاهرة في محاولة لإقناعه بدعم الحكومة وأنه اختار تلك الشخصيات لكفاءتها وقدراتها ودفاعاً عن مصر حتى لا تتهم بأنها هي التي تشكل الحكومات وتختار الأسماء وتعترض على البعض الآخر.
إلا أن النعمان ووجه برفض صارم من عبدالناصر للتعاون معه، وقال جملته الشهيرة “أنت يا نعمان لن تقنعني لا شعراً ولا نثراً” وصمم النعمان على التمسك بوزرائه احتراماً لسيادة القرار وكرامة البلاد وكرامته والتزاماً بالقسم الذي أداه مفضلاً استقالة الحكومة على الرضوخ لرغبات مصر عبدالناصر وقدمها في نهاية شهر يونيو (حزيران) 1965.
إن فكرة الاستقالة من المنصب في كل مستويات المسؤولية تحتاج إلى قدرات نفسية تتجاهل مباهجه ومزاياه، ولا يمكن أن يقدم عليها إلا إنسان يحترم ذاته وإرثه ويقرر بحريته أن يفسح المجال لمن قد يكون أقدر وأكفأ منه، وهي في كل الأحوال تزيد من قدر المرء عند الناس وليس من العيب إعلان العجز عن الإنجاز بحجة واهية يتعلق بها كل من فشل في الأداء بأن في ذلك تهرباً من تحمل المسؤولية حتى مع استمرار الفشل وتراكم آثاره السلبية، بينما الحقيقة هي الرغبة المميتة للتشبث بالموقع.
تثار دوماً في اليمن وفي غيرها جدلية الارتباط بين المسؤوليتين السياسية والأخلاقية عند اتخاذ القرارات الوطنية، لأنهما ترتبطان بفكرة التقيد بالدستور وباحترام المواطن، وحيث إن المحاسبة والرقابة مفقودتان فإن الجانب الأخلاقي وحده يكون هو المحرك للمسؤول الذي يبقى مطمئناً إلى أن تغييره لا يرتبط بأدائه وإنما بمنظومة العمل الحكومي الفاسدة وطريقة الاختيار المناطقية.
في حديث جرى قبل أسبوعين في عاصمة خليجية مع دبلوماسي غربي عمل في اليمن قال لي، إني في كل لقاءاتي وكتاباتي “أرسم” صورة سوداوية عن الأوضاع وكان ردي عليه أني لا “أرسم” ولكني “أصف” الواقع بأمانة ووافقني على أن الواقع صعب جداً، لكنه لا يمكن أن يتحسن في ظل غياب أعضاء مجلس القيادة الرئاسي من دون سبب قهري وعدم شعورهم بالمسؤولية الوطنية.
بطبيعة الحال فقد تطرق الحديث إلى محاولة فهم عدم عودة أعضاء “المجلس” (عدا اثنين موجودين داخل البلاد هما عيدروس الزبيدي وطارق صالح) وكانت وجهة نظري أن مبررات غيابهم غير مقنعة للمواطنين، وأن هذا الأمر يتسبب في إحباط الناس الذين يرغبون في رؤية حكامهم قريبين منهم، وكان المثال الصارخ الذي استحضره الدبلوماسي السابق هو بقاء الرئيس الأوكراني داخل بلاده وتمسكه بالبقاء فيها على رغم الأخطار المحدقة به جراء القصف الروسي المستمر على العاصمة التي لم يفكر بمغادرتها.
في أثناء اللقاء الطويل قال الدبلوماسي الغربي، إنه ربما كان من الأفضل تقليص عدد أعضاء “المجلس”، وكان جوابي الذي رددته كثيراً هو أن المشكلة الحقيقية ليست فقط في عدد الأعضاء، وإنما لأنهم لا يمارسون عملاً حقيقياً ولا يعرف أحد مقار عملهم، وهذا يعطي انطباعاً سلبياً عن عدم جديتهم، بينما يتداول الناس أرقاماً تبدو فلكية بالمقاييس اليمنية لما يتقاضونه من مرتبات وما يتسلمونه من نفقات من دون مقابل ليستحقوها، وهذا الأمر ينطبق على بقية المؤسسات والهيئات العبثية التي جرى خلقها في السابع من أبريل (نيسان) 2022، فأعضاؤها يتسلمون مكافآت مجزية من دون عمل يؤدونه، كما أن أعداد المستشارين الذين يقيمون في الخارج تتكاثر بقرارات غير معلنة.
يصاب المتابعون المهتمون بالملف اليمني بالحيرة إزاء كيفية معالجة العجز الفاضح في الأداء منذ نشأة “المجلس” ويدور البحث في كل لقاء حضرته عن المخارج التي يمكن أن تيسر الوصول إلى المسار السياسي، الذي لا شك فيه أن عقدته الحقيقية تتلخص في أمرين: عدم حماسة جماعة أنصار الله الحوثية للحديث عن إنهاء رسمي للحرب والدخول في مفاوضات جادة لتحقيق السلام المستدام، والثاني هو أن “الشرعية” لم تتمكن منذ 2015 وحتى اللحظة من خلق نموذج يجعل المواطن يتمسك بها ويساندها في مواجهة المصاعب التي يختنق منها الجميع وأن يرى فيها بديلاً صالحاً.
في المسألة الأولى فإن وضع اللا حرب واللا سلم يمثل حالاً مثالية للجماعة، لأنه يجعل من شعار الحرب و”العدوان” ملاذاً لها أمام الناس الذين يعيشون في مناطق سيطرتها لتبرير عدم الإنفاق الداخلي وعدم صرف المرتبات وإلقاء كامل المسؤولية على “الشرعية”، وهذا أمر فيه استهتار حقيقي بحقوق الناس الذين تحملوا قسوة سنوات الحرب التسع.
والأمر الثاني هو عبث “الشرعية” واسترخاؤها طيلة السنوات الماضية وعدم اكتراثها لتحسين أدائها وخلق مناخ استقرار يسمح بتسيير نشاط المؤسسات، وحقيقي أن الارتباك الحاصل في المناطق البعيدة من سيطرة الحوثيين سببه عدم وضوح العلاقة بين مؤسسات الدولة الأمنية وتلك التي يقودها المجلس الانتقالي الجنوبي ولم تفلح فكرة ضم قادة القوى المسلحة في مجلس واحد لخلق جو من التفاهم، بل على العكس فإن المشهد الذي نراه أمامنا يؤكد أن التعقيدات تتكاثر وأن التفتت يتزايد وأن القيادة التي تبحث عن مصالح الناس غير موجودة.
من المؤسف أن فكرة التخلي عن المنصب لا تراود أي مسؤول يمني حالياً مهما كان مقدار فشله الواضح للجميع، لأن هذا يتطلب مستوى من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية، وهو ما لا يراه الناس عند أغلب الموجودين في صدارة المشهد.