الثورة ضد الليبرالية
قراءة في فلاسفة اليمين الجديد للحزب الجمهوري
تشارلز كينغ
طيلة ما يزيد على القرن، هيمن على الأقطاب البارزين في اليمين الأميركي فكرة مفادها بأن لديهم مهمة صريحة ينهضون بها، وكذلك تملكهم إحساس واضح في شأن جذورهم الفكرية. وإذ ركز الليبراليون آنذاك على مخططات فكرية في شأن بناء مجتمع مثالي، فإنهم اعتقدوا دوماً أن المحافظين على أهبة الاستعداد للنهوض بما يلزم من بالعمل الرصين المتمثل في الدفاع عن الحرية ضد الاستبداد. وقد أرجع المحافظون جذورهم إلى عام 1790، حينما صيغت تحذيرات رجل الدولة البريطاني إدموند بيرك في شأن أخطار الثورة [بالمعنى الاجتماعي] وإصراره على ضرورة العلاقة التعاقدية بين الماضي الموروث والمستقبل المتصور [بمعنى حدوث تواصل دائم بين التغيير ومنظومة القيم الاجتماعية السائدة].
وآنذاك، اعتبر اليمين التقليدي أنهم يستندون تاريخياً إلى منظومة أفكار الفيلسوف الإنجليزي مايكل أوكشوت والاقتصادي المهاجر النمسوي فريدريش هايك، بالتالي، نظروا إلى المثقفين الجماهيريين كالكاتب الأميركي ويليام ف. باكلي، وللأشخاص الفاعلين سياسيين كرئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريغن، بوصفهم مقاتلين لمصلحة قضيتهم [اليمين الجمهوري التقليدي] نفسها المتمثلة في الفردية وحكمة السوق، والتوق العالمي إلى الحرية، والاقتناع بأن حلول المشكلات الاجتماعية تأتي من الأسفل [أي من إجماع واسع عليها يشمل الشرائح كلها]، شرط أن تنأى الحكومة بنفسها عن ذلك المسار. وبحسب باري جولد ووتر، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا، ويعتبر بمثابة الأب للحزب الجمهوري المعاصر، في كتابه “وعي الشخص المحافظ” The Conscience of a Conservative، الصادر في عام 1960، “ينظر الفرد المحافظ إلى السياسة باعتبارها فن تحقيق أقصى قدر من الحرية للأفراد بما يتوافق مع الحفاظ على النظام الاجتماعي”.
في المقابل، خلال العقد الماضي، أزيحت تلك السردية إلى الهامش مفسحة الطريق أمام قراءة بديلة للماضي. بالنسبة إلى مجموعة مؤثرة من الكتاب والناشطين، يكمن التقليد المحافظ الحقيقي بما يسمى أحياناً “النظرة التكاملية” Integralismالتي تعني حبك نسيج من الدين والأخلاق الشخصية والثقافة الوطنية والسياسة العامة، في نظام موحد. لم يعد هذا النمط من التاريخ الفكري معبراً عن الثقة التلقائية السهلة التي تمتعت بها أفكار باكلي، وكذلك فإنه غير معني بتقديم محاججة رئيسة، تشكلت أساساً عبر حوارات المؤسسين الأميركيين لليمين الجمهوري التقليدي. وتتضمن تلك المحاججة وجود حكومة تستند إلى دستور يتمثل مناطه الأساسي بتوازن القوى [بين مختلف الشرائح والمصالح] وتمكين المواطن الحر من السعي إلى تحقيق السعادة. بدلاً من ذلك، بات اليمين الجمهوري اليوم يتخيل العودة إلى نظام أقدم بكثير، أي إلى زمن ما قبل الانعطاف التاريخي الخاطئ [وفق اليمين الجديد] المتمثل في مشروع التنوير Enlightment، وغواية حقوق الإنسان والإيمان بالتقدم، وتذكيراً، حدث ذلك الانعطاف تاريخياً خلال أوقات تسييدها الاعتقاد أن الطبيعة والمجتمع والألوهية تعمل كوحدة واحدة غير قابلة للتجزئة.
[استُهل مشروع التنوير في القرن الثامن عشر، خصوصاً مع تأثير عقلانية كانط وفلسفة هيغل، ثم أفكار فلاسفة الثورة الفرنسية من أمثال روسو وفولتير وديدرو ومونتسيكيو وغيرهم. وأحياناً، تدرج مرحلة النهضة Renaissance في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكذلك الفكر الإنساني في القرن التاسع عشر، ضمن مسمى التنوير].
ولدت النظرية التكاملية في صفوف اليمين الكاثوليكي، لكن انتشارها تجاوز أصولها. وتعتبر الآن نهجاً في السياسة والقانون والسياسة الاجتماعية، فيشير إليها مروجوها بمسمى “المحافظة على الصالح العام”. وفي ولايات كفلوريدا وتكساس، تحدثت التكاملية عن نظرتها إلى العالم عبر فرض قيود على الوصول إلى التصويت، وتقييد مناهج المدارس العامة التي تتناول مسائل العرق والجنس، وحملات التطهير للمكتبات المدرسية [التخلص من الكتب التي تتناول العرق والجنس].
وكذلك شكلت النظرية القانونية للتكاملية، أساساً لقرارات المحكمة العليا الأخيرة التي ضيقت حقوق المرأة وأضعفت الفصل بين الدين والمؤسسات العامة. وكذلك وقفت نظرتها إلى اللاهوت وراء حظر الإجهاض الذي أقره ما يقرب من نصف المجالس التشريعية للولايات الأميركية. وسيظهر أنصارها في أي إدارة رئاسية جمهورية في المستقبل. وفي سياق معركتهم ضد الليبراليين والكوزموبوليتيين أصحاب الرؤى العالمية، من المرجح أن يبحث أنصار النظرية التكاملية، وبما يفوق بأشواط سابقيهم المحافظين الأميركيين التقليديين، عن حلفاء في الخارج. ولن يقتصر أمر أولئك الحلفاء على اليمين الوسط البريطاني أو الأوروبي، بل يشمل اليمين المتطرف والحكومات الاستبدادية، من المنادين بتفكيك “النظام الليبرالي” داخل بلادهم وخارجها.
[الكوزموبوليتية تيار فكري وسياسي واسع حديث، ينظر إلى العالم كله بوصفه مساحة واحدة، خصوصاً لجهة الانفتاح على الاستثمار. ويميل الكوزموبوليتيون إلى التهوين من شأن الهويات على أنواعها، ويشددون على الفردية وقدراتها].
ووفق كلمات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، “إنهم يكرهونني ويشوهون سمعتي، ويؤذون سمعة بلادي، بقدر ما يكرهونكم ويشوهون سمعتكم ويؤذون سمعة أميركا التي تدافعون عنها”. وقد وجه تلك الكلمات إلى حشد في مدينة دالاس بولاية تكساس، أثناء المؤتمر السنوي لـ”التحالف المحافظ من أجل فعل سياسي” الذي يجمع نشطاء المحافظين والسياسيين والمتبرعين. وأضاف أوربان، “في المقابل، لدينا تفكير مغاير عن المستقبل. وليذهب أنصار العالمية إلى الجحيم”.
وبالنظر إلى تلك الأسباب جميعها، تشكل قراءة فلاسفة الجناح اليميني خطوة أولى في فهم ما قد يعتبر أضخم عملية إعادة تفكير جذرية منذ عقود طويلة، في شأن الإجماع السياسي الأميركي، إذ يصر منظرون من بينهم باتريك دينين وباتريك فيرميول ويورام هزوني، على وجود جذر مشترك للعلل في اقتصاد أميركا وانقسامها السياسي وتدهورها النسبي كقوة عالمية. يتمثل ذلك الجذر في الليبرالية التي يعرفونها بوصفها الإطار العام الذي هيمن منذ الحرب العالمية الثانية، على الولايات المتحدة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، والنموذج الذي صرفت تلك البلاد القسم الأفضل من القرن الماضي، في فرضه على بقية بلاد العالم. ومع ذلك، تؤشر تلك الأفكار أيضاً على تغيير أعمق غوراً في الطريقة التي بات اليمين الجمهوري يعتمدها في تشخيص مشكلات أميركا. فبالنسبة إلى اليمين الأميركي، ثمة بداهة متناهية قوامها أن المشكلة في الديمقراطية الليبرالية لا تنحصر في صفتها، بل تشمل اسمها كذلك.
أفضل الناس
في كتابه “تغيير النظام” Regime Change، يبدو دينين، وهو منظر سياسي في “جامعة نوتردام”، أنه يتحرك بدفع من رغبة في إنقاذ البلاد والحضارة التي يجد أنها في حال تهالك واضحة. ويشجب التفاوتات الفاضحة في الثروة داخل الولايات المتحدة، ويكتب بشكل لاذع عن نظام بيروقراطي يبرر نفسه بالجدارة، لكنه يعمل فعلياً على إعادة إنتاج الامتيازات. وكذلك يرى أن الانحلال يأتي من تنامي الانقسامات السياسية، وضعف الميل إلى الأمة، وما يسميه الإدمانات الكبرى على “التكنولوجيا الكبيرة، والنظام المالي الكبير، والإباحية الكبيرة، وحشيشة الكيف الكبيرة، والأدوية الكبرى، والاقتراب المستمر من الوصول إلى عالم “ميتا” الاصطناعي”.
ووفقاً لدينين، فقد اشتغل الليبراليون عن عمد على تآكل المنتديات الأساسية للتضامن الاجتماعي، المتمثلة في “الأسرة والحي والجمعية والكنيس والمجتمع الديني”، بالتالي، فقد صار الليبراليون يحكمون الآن كأقلية ضد الجمهور، أي الغالبية الشعبية. وفي المؤسسات التي يسيطرون عليها، من الأوساط الأكاديمية إلى هوليوود، يبشرون بأن الحياة المعقولة الوحيدة تتمثل في حياة متحررة من قيود الواجب والتقاليد. وبالنسبة لهم، فإن المسار المفترض من المراهقة إلى البلوغ يتمثل في تعلم “كيفية الانخراط في “الجنس الآمن” وتعاطي الكحول والمخدرات بصورة ترفيهية [ويضاف إلى ذلك] الهويات العابرة للأنواع الجنسية. وكل ذلك استعداداً لحياة نعيشها في عدد قليل من المدن العالمية حيث تعني “الثقافة” سلعاً استهلاكية بعينها تكون باهظة الثمن وحصرية”. وفي سياق هذه العملية [بالنسبة إلى دينين]، تخلى الليبراليون عن أي شخص لا يندرج في “طبقة الكمبيوتر المحمول” [إشارة إلى نمط متقدم من العيش المديني المرتبط بإيقاع التكنولوجيا]، ومعظمهم يقطنون المدن الأميركية الساحلية، وقد جعلوا الوسط الجغرافي للولايات المتحدة مجوفاً وفي حالة يأس.
بالنسبة إلى اليمين الأميركي، لا تتمثل مشكلة الديمقراطية الليبرالية في تلك الصفة وحدها، بل إنها تشمل الاسم أيضاً
من وجهة نظر دينين، فإن صانعي تلك الأرض الأميركية اليباب ليسوا مجرد أناس من اليسار، بل إنهم يشكلون النخب السياسية والتجارية والثقافية بأكملها في البلاد، إذ يكتب دينين، “صنف بوصفه” أفكاراً محافظة “في الولايات المتحدة على مدى نصف القرن الماضي”، بات “يتبدى اليوم بوصفه حركة لم تكن قادرة على الإطلاق، بل لم تلتزم أساساً، بالتحفظ بأي معنى أساسي”. ونتيجة لذلك، ثمة مشكلة في السياسة اليوم تتبدى في الشرخ الذي يفصل بين أصحاب النفوذ والجماهير، وهو الموضوع الذي يتتبعه دينين من خلال مفكرين مكرسين من وزن أرسطو وتوما الأكويني وألكسيس دي توكفيل. وبالنسبة له، تزدهر المجتمعات من خلال الحفاظ على “دستور مختلط”، مع مؤسسات مختلفة المستويات والقدرات، من القومي إلى المحلي، تجمع بين الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية.
وبغية استعادة ذلك النظام المثالي، سيحتاج المحافظون الحقيقيون إلى الإمساك بالسلطة من خلال استخدام ما يسميه دينين “الوسائل المكيافيللية لتحقيق الغايات الأرسطية” [إشارة إلى المفكر الإيطالي ميكيافيللي ومقولته بأن الغاية تبرر الوسيلة، فيما ارتكز فكر أرسطو السياسي على الإنسان السياسي والدولة التي تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة لأفرادها].
وكذلك يعتقد دينين أن المحافظين قد أذعنوا منذ فترة طويلة لنظام ليبرالي واسع، وقد قادهم ذلك إلى التحالف مع الأشخاص الذين يشددون على “أولوية الفرد” ويعارضون “الأسرة الطبيعية” بل ينخرطون في “إضفاء الطابع الجنسي على الأطفال”، وتلك تهمة يكرر مرتين في كتاب “تغيير النظام”. وفي المقابل، يعتقد دينين أن “كثيرين” باتوا اليوم، متنبهين في شأن مصالحهم الطبقية “على غرار اليساريين الاقتصاديين والاجتماعيين المحافظين من الشعبويين”، وكذلك فإنهم راغبون في اقتصاد يعمل على إعادة توزيع الثروة العامة ومجتمع يستند إلى الفضيلة والمسؤولية والاستقرار الذي يجعل مساره موثوقاً وقابلاً للتوقع.
في عصر الثورة التي ستتبع “الحرب الأهلية الباردة” [الأميركية] الحالية، ستتطلب إعادة تشكيل البلاد نوعاً من الـ”أرستوبوبيوليزم” aristopopulism [مزيج من كلمتي أرستوقراطية وشعبوية] أي نظام ترأسه نخبة جديدة من أشخاص يكونوا أرستو [من أرستوقراط] المدربين، وتعني تلك الكلمة “أفضل الناس” باللغة اليونانية، بمعنى أنهم “الذين يفهمون أن دورهم الرئيس وهدفهم في النظام الاجتماعي يتمثل بتأمين الفضائل التأسيسية التي تجعل ازدهار الإنسان مستطاعاً من قبل الناس العاديين. ويتضمن ذلك النظام مزيجاً من الفضائل المركزية للأسرة والمجتمع والعمل الجيد والثقافة التي تحافظ على النظام والاستمرارية وتشجعهما، إضافة إلى دعم المعتقد الديني والمؤسسات”. وسيعمل هذا النظام الجديد على تفضيل ما يسميه دينين، باستيحاء من تعبيرات الصحافي البريطاني ديفيد غودهارت، الأشخاص الذين يفكرون بأنهم “في مكان ما” على حساب من يفكرون بأنهم “أناس أي مكان”، بمعنى تفضيل الأميركيين الذين يحسون أنهم منغرسون إلى مجتمعات لها وجود فعلي مجسد ومحسوس، على عكس دعاة العولمة الدائمي التنقل [من دون إحساس بالانتماء إلى مكان معين] ممن يتولون المسؤولية الآن. للوصول إلى ذلك النظام، ستحتاج البلاد إلى مجلس نواب أكبر [كي يعبر عن مجموعة أكبر من المجتمعات المحلية]، وتعليم مهني أفضل، وتجديد المدارس العامة، وإجازة عائلية مدفوعة الأجر، وشركات ملجومة مكبلة بالقوانين، وهي أهداف قد يصفق لها الليبراليون كذلك، إضافة إلى مزيد من الاحتفاء العلني بالـ”جذور المسيحية ” وتشكيل قلب الحكومة من أفراد يمكن وصفهم بـ”قياصرة الأسرة” [متحمسين بشدة لمفهوم العائلة] بغية تشجيع الزواج والحمل. ويشير دينين إلى أن ذلك النهج يمكن العثور عليه في هنغاريا تحت قيادة أوربان.
الصالح العام الأقصى
يقدم دينين بديلاً عن الليبرالية المنهكة والفاسقة، قوامه شكل للسياسة يشدد على “أولوية الثقافة، وحكمة الشعب”، و”الحفاظ على التقاليد الشائعة لنظام الحكم”، بمعنى وجود نزعة محافظة تسعى وراء ما وصفه دينين وغيره، بـ”الصالح العام”. في استخدامه، يشير هذا المصطلح إلى عدم المبالغة بالاحتفاء بالثروة العامة بقدر اهتمامه ببناء نوع معين من المجتمع يتسم بالتشارك الجماعي والمحلية والهرمية في التراتبية. في مجال القانون والسياسة العملية، لم يعرف أحد هذا النوع من الصالح العام بأكثر مما فعل فيرميول، الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة هارفرد.
وضع فيرميول كتاب “دستورية الصالح العام” Common Good Constitutionalism ليكون عملاً في شأن التفسير القانوني وليس النظرية السياسية، لكن هدفه، على غرار دينين، يدور حول استعادة نمط من التفكير يعتقد أنه يسبق عصر التنوير. وبالنسبة لفيرميول، لا يقتصر مقياس القانون على مدى حمايته الحقوق الفردية التي يعتقد ذلك المفكر أنها ليست تأسيسية للنظام القانوني. بالأحرى، يتعلق الأمر بمدى استطاعة القانون التمكين “لأعلى درجات الهناء أو السعادة للمجتمع السياسي بأسره، التي تعتبر كذلك أعلى منفعة للأفراد الذين يشكلون ذلك المجتمع”. ووفق فيرميول، يعرف الصالح العام بأنه “وحدوي غير قابل للتجزئة، وليس تجميعاً للمنافع الفردية”، ويعني ذلك التعريف تفضيل الأحكام القضائية التي تعزز التضامن والدعم، أي تفضيل التزام الفرد تجاه الأسرة والمجتمع، وتمكين المستويات الأدنى في السلطة كالولايات والمدن، والتمسك بما يرى فيرميول إنه القانون الطبيعي و”التقليد الضارب جذوره في التاريخ السحيق” لروما القديمة والمملكة المتحدة الحديثة.
قد يستصعب أي شخص غير منغرس في النظرية القانونية عمل فيرميول، لكن إملاءات ذلك العمل تتلاحق بالتدريج. ويشمل ذلك أن حقوق الإنسان والملاءمات القانونية يجب أن ترسم حدودها وفق درجة خدمتها للصالح العام. وكذلك فإن “الدولة الإدارية”، أي الوكالات الحكومية التي تطبق التشريع، ليست شراً بطبيعتها على غرار ما يصر عليه بعض المحافظين. بدلاً من ذلك، يجب ببساطة أن تتجه [الدولة الإدارية] نحو تحقيق الصالح العام، وهي نقطة تسير بالتوازي مع أفكار دينين في شأن “الوكلاء والقائمين على شؤون رعاية المجتمع”، أي أولئك الأرستويين [نوع الأرستوقراطية التي وصفها دينين] ممن الذين تلقوا تعليماً جيداً في القوانين الغربية، بما يكفيهم للتعرف على الأشياء الجيدة حينما يرونها.
واستطراداً، يعتقد فيرميول بضرورة سقوط القرارات التي اتخذتها المحكمة العليا في الماضي والمرتكزة إلى حقوق فردية مبالغ فيها. وبحسب رأيه، “إن الفقه التشريعي للمحكمة العليا في شأن حرية التعبير والإجهاض والحريات الجنسية والمسائل المتصلة بها، سيثبت أنه ضعيف في ظل نظام دستوري يستند على الصالح العام”. وفي سياق متصل، فإن المحافظين المفرطي الاهتمام بالحرية الفردية يمثلون مشكلة كذلك، إذ تستطيع الحكومة، بل ينبغي لها، أن تحكم على “النوعية والجدارة الأخلاقية” لحرية التعبير. ولا يوجد حق مطلق في رفض التطعيم إذا كان ضرورياً للصحة العامة. واستطراداً، يعتقد فيرميول بأن “حقوق الملكية والحقوق الاقتصادية، يجب أن تنتهي بالمقدار الذي تمنع فيه الدولة من فرض واجبات المجتمع والتضامن في سياق استخدام الموارد وتوزيعها”.
وفي كتاب “دستورية الصالح العام” فإن ما يقدم بوصفه نظرية عن القانون، يشكل في الواقع إعادة تفكير شاملة في الشرعية. من وجهة نظر فيرميول، فإن أساس السلطة الشرعية ليس العادات أو الكاريزما أو العقلانية، وفق مقولات عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، بل إنه يكمن في “النظام القانوني والأخلاقي الموضوعي” الذي يشكل دعاة الصالح العام الأشخاص الأفضل في إدراكه. وبحسب فيرميول، فإن الديمقراطية والانتخابات ليس لهما أي ميزة خاصة في تحقيق الصالح العام. بالتالي، “من المستطاع تنظيم مجموعة من أنواع الأنظمة [كي تعمل] لتحقيق الصالح العام، أو لأن لا تعمل على ذلك”. لقد أرسى الليبراليون نوعاً من النظام الدستوري تستمد فيه الشرعية من الأفراد أصحاب الحقوق الذين يختارون بشكل دوري ممثلين يتولون صوغ القوانين، والحكم في النزاعات، والحفاظ على السلام، ولكن إذا أسفرت تلك البنى عن نتائج تتعارض مع الصالح العام، فسيتعين تفكيكها. بالتالي، يقر فيرميول أن هذه النظرة إلى عالم قد “يصعب على العقل الليبرالي التعامل معها”.
روابط الولاء
تتمثل أحد أهداف كتاب هازوني “إعادة اكتشاف المحافظة” Conservatism: A Rediscovery، في وضع مخطط عن كيفية تمكين المحافظين من استعادة التراث الذي اشتق منه دينين وفيرميول نظرياتهم. وعلى غرار دينين، يعطي هازوني، باحث أميركي إسرائيلي ورئيس “معهد هرتزل” في القدس، وصفاً فواراً عن مشهد الجحيم الذي أنتجه النظام الليبرالي، ويتنبأ بانهياره الوشيك. وفي المقابل، يبدي هازوني انفتاحاً على فكرة أن “الليبراليين المناهضين للماركسية” يمكن جلبهم إلى تحالف مع من لديهم وعي صحيح بمفهوم المحافظة التي يعرفها بأنها “استعادة وتصحيح وتطوير وإصلاح التقاليد القومية والدينية، بوصفها المفتاح في الحفاظ على الأمة وتقويتها عبر الزمن”. يعتقد هازوني أن الخطوة الأكثر أهمية هي قلب الفصل بين الكنيسة والدولة و”استعادة المسيحية كإطار معياري وكمقياس يحدد الحياة العامة في كل وضعية يمكن فيها تحقيق هذا الهدف، بالترافق مع خطوط واضحة تنحت فضاءات عدم الامتثال المشروع”. إذا احتكر الليبراليون المجال العام عبر خصخصة القيم المحافظة، على غرار تشجيع مجموعة واحدة من الطلاب على الاحتفال بالتنوع الجنسي خلال “شهر الفخر” مثلاً، ولكن مع منع مجموعة أخرى من استخدام ممتلكات المدرسة من أجل الدراسة المنظمة للكتاب المقدس، فإن المحافظة المتجددة ستقلب ذلك النص ببساطة. وستعود الحياة العامة إلى كونها قومية من دون تحفظ ومتدينة مجتمعياً.
بالنسبة إلى هازوني، من المستطاع استخلاص الصالح العام عبر تفحص التاريخ والطبيعة بعيون مفتوحة، إذ يولد الناس في وحدات ولاء موجودة، على غرار العائلات والأمم، وينتج من تلك الحقيقة التزامات تجاه هذه الجماعات. وفيما تتكاثر الأسر بيولوجياً، تطور الأمة لغتها ودينها وقوانينها الفريدة بغية ضمان وجودها في الأجيال القادمة. ويتتبع هازوني تلك المبادئ من خلال تاريخ القانون الدستوري الإنجليزي، وكذلك صعود الفيدراليين الذين يعتبرهم بناة الأمة الأميركية الأصليين، ويصل إلى مرحلة التخلي القاتل عن “الديمقراطية المسيحية” لمصلحة “الديمقراطية الليبرالية” بعد الحرب العالمية الثانية.
تعتبر معالجة هازوني للتاريخ القانوني والسياسي جادة، على رغم أنها مغرضة. ولكن، حينما يتعلق الأمر بالفلسفة، فإن كتاب “إعادة اكتشف المحافظة” يشكل في الأساس مانيفستو [نوعاً من بيان مبادئ أساسية]، بمعنى أنه ينتمي إلى شكل أدبي يهدف إلى تقوية الذين تحولوا [أي تبنوا المحافظة الجديدة] بالفعل، بالتالي، يحل بديلاً عن التأكيد المتسلسل للمحاجة. ووفق كلماته، “يرغب البشر باستمرار في تحقيق صحة وازدهار الأسرة أو العشيرة أو القبيلة أو الأمة التي تربطهم بها روابط الولاء المتبادل”. بالتالي، يوصل ذلك الزعم إلى التساؤل عن سبب السهولة التي مكنت الليبراليين من تخريب تلك الروابط كلها.
بشكل عام، يتبنى هازوني وجهة نظر تصلح لمن يكون محللاً وقومياً/ وطنياً ممنهجاً، إذ يؤمن بالاستمرارية غير المتغيرة للأمم المحددة ثقافياً عبر الزمن، وأولويتها [الأمم، بحسب تلك الترسيمة] عبر أزمنة مديدة كشكل للتنظيم الاجتماعي، ودورها العالمي في دعم دول شرعية [أي دول المستندة إلى تلك الأمم]. لقد أثبتت عقود من البحوث المستندة على الأدلة في التاريخ والعلوم الاجتماعية، خطأ تلك الفرضيات، إذ إن كثيرين من الليبراليين وطنيون، وملتزمون دينياً، ويعملون وفق روحية مجتمعاتهم. واستطراداً، يتلخص الأمر كله في أنهم لا يشعرون عادة بالحاجة إلى تعبئة الماضي بأكمله كي يعطوا شرعية لتلك الالتزامات كلها.
في مسار متصل، تشكل العائلة فكرة يعود إليها دينين وفيرميول وهازوني، مراراً وتكراراً. إنها تحضر في الغالب كرمز لرفضهم وجود المثليين والمتحولين جنسياً، فيما يتعلق بقضية “أوبرجفل ضد هودجز” التي نظرت فيها المحكمة العليا عام 2015 وشرعت زواج المثليين، يرى فيرميول أن ما أقرته المحكمة العليا في تلك القضية يعتبر نموذجاً معيارياً عن التجاوز الليبرالي، لكن ليس للسبب الذي قد يعتقده المرء. لم تكن المشكلة الحقيقية أن المحكمة اغتصبت سلطة الكونغرس، وفق ما جادل أحد المحافظين ذات مرة. بالأحرى، تتمثل المشكلة [في التعريف القانوني الذي يقضي بأن] “الزواج لا يمكن إلا أن يكون اتحاداً بين رجل وامرأة” لأن هذا التعريف يتوافق مع التكاثر البيولوجي. بالتالي، أرسى الحكم [الصادر عن المحكمة العليا عن زواج المثليين] الأساس لـ”التثمين النهائي للإرادة على حساب الأسباب الطبيعية” من خلال فصل الزواج عن دوره في إدامة “مجتمع سياسي مستمر”.
وينطبق وصف مماثل على دينين الذي يرى أن العائلات التي يرأسها أزواج مثليون تقدم المثال البارز عن الحياة اللامحدودة التي يشعر الليبراليون بالقدرة على التفكير في وجودها، وإنها أيضاً الحياة التي، مثل “الروح التحررية لليبرالية التقدمية” بأكملها، يجب بالضرورة أن تبحث عن ضحية لها، فتجدها في أشخاص مثله. ووفق كلمات دينين، “يبدو أن الافتراض [لدى الليبرالية التقدمية] يتمثل في أن الطريق الحقيقي الوحيد للمصالحة الإنسانية يكون عبر القضاء الفاعل على طبقة الظالم الوحيدة الموجودة [أي تلك الطبقة المكونة من] الرجال المسيحيين البيض ممن يمارسون علاقات جنسية يشترك فيها ذكر وأنثى (وكل من يتعاطف معهم)”.
وعلى غرار الحال مع اليمين المتطرف في روسيا والاتحاد الأوروبي وأماكن أخرى، لا يتطلب الأمر قراءة عميقة لهؤلاء الكتاب للعثور على تعصب مكشوف في قلب غضبهم في شأن الحضارة.
الغضب والحزن والخوف
سيتعرف أناس كثيرون على الأزمة الأميركية التي تعذب دينين وفيرميول وهازوني، وربما شاركوهم توقهم إلى سياسيين مخلصين هدفهم تحسين الأمور، لكن المتلازمة ليست مثل المرض. ويقصد من ذللك أن المرض له سبب واضح، أما المتلازمة فإنها ليست كذلك [تعرف المتلازمة Syndrome بأنها مجموعة من الأعراض والشكايات التي تظهر، كلها أو مجموعة منها، مترابطة مع بعضها بعضاً. ويربط المرض Disease مع سبب واحد، أو يرد إلى مجموعة من الأسباب تكون محددة نسبياً].
ويعتقد الكتاب الثلاثة أن مصدر المشكلات الحالية يتجسد بالنظام الليبرالي بأكمله، باعتباره، على غرار مصطلح “اليقظة” Woke، ينتهي به الأمر بأن يضحي حاوية تضم كل ما يكرهونه. وإذ يعمل أولئك الكتاب بشكل أساسي، على مستوى النظرية الكبرى، فإن حججهم تقع في إغراء تخطي الحقائق الاجتماعية من دون الخوض في أسبابها المتعددة. إن انخفاض متوسط العمر المتوقع، وتجويف التعليم العام، والعنف باستخدام الأسلحة النارية كسبب رئيس لوفاة الأطفال الأميركيين، والمواطنين المشردين الذين يعيشون في معسكرات الخيام من واشنطن العاصمة إلى لوس أنجليس [إن تلك الأشياء كلها] هي نتيجة خيارات سياسية محددة، في مختلف مستويات الحكومة، ولدت من أجندات مختلفة، وليس من ليبرالية تتهاوى.
وكذلك فإن الأمر الأكثر إثارة للقلق يتمثل بأن دينين وهازوني يقدمان مظالم الغالبية المستغلة من وجهة نظر ما هو في الواقع التزامات يمينية وعرقية وثقافية لأقلية عددية. وبالنسبة إلى أمور على غرار الرعاية الصحية التي تدعمها الدولة، ورفع الحد الأدنى الفيدرالي للأجور، والإجهاض، ومراقبة الأسلحة، فإن الأميركيين منقسمون بشكل متساوٍ أو أنهم يميلون إلى يسار الوسط، إذ يوافق 56 في المئة من الكاثوليك على أن يكون الإجهاض مشرعاً قانونياً في جميع الحالات أو معظمها، بحسب استطلاع أجراه “مركز بيو للبحوث” في عام 2022. كذلك زادت الموافقة العامة على المساواة في الزواج بشكل مطرد منذ تسعينيات القرن العشرين، لتصل إلى مستوى قياسي بلغ 71 في المئة في استطلاع أجرته “مؤسسة غالوب” العام الماضي. وقد انخفضت نسبة البروتستانت الإنجيليون البيض، وهم دعامة أساسية لمؤيدي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، إلى 14 في المئة من سكان الولايات المتحدة، وهو أدنى مستوى لها تاريخياً، وفق إحصاءات “المعهد العام بأبحاث الدين”. كذلك لم تعد النخبة على الصورة التي قد يتخيلها المحافظون المنادون بمقولة المصلحة العامة. لأكثر من عقد من الزمان، لم تكن المجموعة الثقافية الأكثر تعليماً والأعلى دخلاً في الولايات المتحدة من الكوزموبوليتانيين الملحدين، بل صارت تتشكل من الهنود الأميركيين، خصوصاً الهندوس والمسلمين، الذين يتحدث نحو ثلاثة أرباعهم عن دور مهم للدين في حياتهم، وفق استطلاع “مؤسسة كارنيغي” في عام 2020. في بيئة كهذه، لا يزيد الادعاء بأن “أميركا أمة مسيحية” عن القول بـ”أتمنى لو أنها كانت كذلك”.
واستكمالاً، يأتي القلق الحقيقي من أن أقلية سياسية متشددة قد استنتجت بالفعل أن طريقتها الوحيدة لقلب مسار تلك الاتجاهات كلها، تتجسد في التخلي كلياً عن المشاركة السياسية، والقضاء المستقل، وحقوق الإنسان. ويقدم دينين وفيرميول وهازوني، الخلفية الفكرية اللازمة التي تعوز تلك الاستراتيجية بالتحديد، إذ يضع المؤلفون الثلاثة أنفسهم داخل تقليد يعتقدون أنه يمتد إلى عصور قديمة، لكن عملهم يستدعي تقليداً أقرب زمنياً، أي المراثي الأخلاقية اليائسة حول الانحلال الأميركي، المترافقة مع الحديث عن تجديد الفرصة الأخيرة. لقد أنتجت مثل تلك المراثي قبل قرن من الزمان، في أعمال على غرار كتاب [المحامي والباحث الأميركي] ماديسون غرانت “العرق العابر العظيم” The Passing of the Great Race. كان غرانت عنصرياً وعلمياً وتقدمياً، وقد لا يبدو ذلك الأمر واضحاً بالنسبة إلى المحافظين من دعاة الصالح العام. في المقابل، تتضمن توصيات سياستهم إلى حد كبير، توصياته [غرانت] نفسها، أي تشديد قيود الهجرة، والمحافظة على تفوق الثقافة الأنغلو أميركية، والدفاع عن أن يكون قلب البلاد من المسيحيين (أو بالنسبة إلى هازوني، المسيحيين واليهود المتشددين)، ودعم الأمة ضد “الأفراد المنحطين” الذين صنعوا “المجتمع المريض”، وفق تعبير هازوني. في القلب من تلك التوصيفات، يتبدى الاعتقاد أن ما قد يراه الآخرون على أنه تغيير اجتماعي، أو حتى تقدم، محكوم بأن يشكل مجرد خسارة.
ينتج من غضب المؤلفين الواسع، نثر يتحول إلى ندب وصخب وتبشير إنجيلي، لكنه يقدم مع طمأنة الذات تشبه ما يكونه إلمام طالب في السنة الجامعية الثانية بتاريخ البشرية كلها، لكن الأهم من ذلك، يتمثل في أن غضبهم يهدر تعاطفهم. يكتب دينين بحرارة عن عالم آمن يتكون من “زواج سليم، وأطفال السعداء، وتعدد الأشقاء وأبناء العم”، وأن تكون “ذكرى الموتى بيننا”. يكرس هازوني الأجزاء الأخيرة من كتاب “المحافظة” إلى سرد مؤثر عن حبه لزوجته وأطفاله وأفكاره حول بناء حياة الشرف والفضيلة. ومع ذلك، فحينما يتعلق الأمر بأطفال الآخرين، ومجتمعاتهم، وازدهارهم، وحبهم، يصدر ازدراء مروع من هؤلاء المؤلفين كأنه حشد يهتف.
غضب المؤلفين يهدر تعاطفهم
ثمة حزن خاص في رؤية رجال مثقفين أثناء انغماسهم في قسوتهم. وحينما يشجعون القسوة في الآخرين، يتحول الحزن إلى خوف. وبحسب ما شدد عليه في زمن ماضٍ، كتاب مناهضون لليسار كالمفكر النمسوي البريطاني فريدريك هايك، فإن أي محاولة لتحديد غايات الحياة بمعزل عن إرادة الكائنات الحية تكون أحد أشكال الجماعية التي تصبح مصدراً لعدم الحرية، والأسوأ من ذلك، اللاإنسانية. إن التخلص من هذا الخط من التفكير يعني رفض تقليد خاص به بالذات. ويتمثل ذلك التقليد في مجموعة الأفكار التي أنتجتها مروحة واسعة من الطيف السياسي، تمتد المفكر البريطاني مايكل أوكشوت إلى هايك إلى المنظر الليبرالي الأميركي ويليام باكلي، ومن الألمانية هانا أرندت إلى الأميركي جيمس بالدوين. وقد عمل ذلك التقليد الفكري على وضع أشخاص فعليين، وليس الأمم، والأعراق، أو الطبقات، في قلب المجتمع المتحضر.
واليوم، تنظر شريحة نشطة من المثقفين والسياسيين الأميركيين والجمهور المصوت، إلى نفسها باعتبارها جزءاً من تحالف دولي المغبونين، الذين تتمثل رغبتهم الأساسية على وجه التحديد في “تغيير النظام” الذي ينادي به دينين. من الشائع الإشارة إلى أن ترمب وأوربان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغيرهم من القادة الاستبداديين، يجسدون نسخاً من النوع السياسي نفسه، بل ربما التركيبة النفسية ذاتها. في المقابل، إن الأمر الأكثر إثارة للقلق يتبدى في أن الولايات المتحدة قد طورت منظومة تنتج مستقبلاً قادة من هذا النوع. ويندرج في ثنايا تلك المنظومة حزب، وفضاء إعلامي، وقاعدة مالية، بل حتى ما أضحى الآن مدرسة أميركية للفكر غير الليبرالي. وبهذه الطريقة، تكون الولايات المتحدة في وضع غرائبي لأنها من جهة تمثل البطل الأكثر حماسة في العالم للنظام الليبرالي الذي يعني منظومة تعاونية من الدول التي تعمل بالاستناد إلى قواعد قانونية وتتبنى بنفسها القيم الليبرالية، ومن جهة ثانية باتت أميركا أحد التهديدات المحتملة [للنظام الليبرالي]. وبحسب ما لم يحدث من قبل، فإن الطريقة التي ستميل الدولة إلى اعتمادها ستعتمد كلياً على نتائج الدورات الانتخابية المستقبلية.
واستكمالاً، إن الهدف من القيم الليبرالية التي اعتنقها عديد من التقدميين والليبراليين الكلاسيكيين والمحافظين الرئيسين على حد سواء، لا يتمثل في أنها خالدة أو تضمن السعادة. إنها تستند إلى شيء واحد في الحياة الاجتماعية يمكننا جميعاً التأكد منه، يتجسد في أننا سنقابل أفراداً آخرين مختلفين عنا، ويحملون تفضيلاتهم وطموحاتهم ووجهات نظرهم الخاصة. إذاً، إذا نحينا الميتافيزيقيا المعقدة وعلم اللاهوت التأملي، فإن ما يتبقى هو أن البشر يكافحون لإصلاح سفينة في البحر بالفعل، بمعنى إيجاد طرق للعيش معاً بسلام، بل حتى الازدهار، في عالم متغير وتعددي.
وكخلاصة، لطالما اعتبرت الليبرالية الأميركية التقليدية أن زيادة مقدار المساواة سيمكن الجميع من تحقيق الإنجازات. وقد حذرت المحافظة الأميركية التقليدية من أن المخططات الكبرى للتحسين تنتهي عادة على شكل كوارث. ويشكل ذلك الأمر نقاشاً يستأهل الخوض فيه باستمرار. وعلى رغم كل اختلافاتهم، فإن هذه المعسكرات القديمة تشترك في القدرة على التعرف على الاستبداد بمجرد رؤيته، سواء في الاتحاد السوفياتي أو جيم كرو ساوث [تسمية أطلقت على قوانين الفصل العنصري في أميركا] أو الفلسفات التي تدعي أن الله أو التاريخ أو الطبيعة هو رفيقها بالذات. وبالنسبة إلى اليمين الأميركي، قد ينفد الوقت لاستعادة ذلك الشعور بالواقع.
* تشارلز كينغ، أستاذ الشؤون الدولية والحكومة في جامعة جورجتاون ومؤلف كتاب” آلهة الهواء العلوي، كيف أعادت دائرة الأنثروبولوجيين المتمردين اختراع العرق والجنس والنوع الاجتماعي في القرن العشرين”.
فورين أفيرز
يوليو (تموز)/ أغسطس (آب) 2023