مقالات
أسباب شلل مؤسسات “الشرعية” اليمنية
مصطفى النعمان
تكتفي “الشرعية” في اليمن بإعلان إفلاسها لتبرير عجزها عن الاستجابة للمتطلبات الأساسية لتسيير الخدمات الأساسية وأعمال المؤسسات في المناطق التي تديرها، وهو مبرر لا يمكن إنكاره أو إثارة الشكوك حوله، ولكن الحقيقة الفاضحة التي تتجنب الاقتراب منها والتعامل معها هي مقدار العبث المالي في الإنفاق الترفيهي الذي تتناوله وسائل الإعلام والتقارير الدولية، مما أدى إلى انهيار ثقة الممولين الإقليميين والدوليين، ولم تبق إلا الحكومة السعودية ملتزمة بالتدخل في أحرج الأوقات، وهذا أمر لا يمكن منطقياً ضمان استمراره من دون التقيد بشروط صارمة حول كيفية إنفاق المبالغ التي تقوم بتحويلها إلى حسابات البنك المركزي اليمني.
كان الناس يأملون أن يمثل “مجلس القيادة الرئاسي” نموذجاً مغايراً للحال التي كانت عليها إدارة الدولة في مناطق وجودها قبل السابع من أبريل (نيسان) 2022، وأن يشهدوا تحسناً في الخدمات وأداء حازماً من الأجهزة الرقابية وعودة الهيئات الدستورية للداخل، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث ولا يتوقع أحد حدوثه قريباً لأن الواضح، بعد مرور ما يزيد على 15 شهراً منذ تولي “المجلس” مقاليد السلطة، أن أسباب تغييب الرئيس عبد ربه منصور هادي عن المشهد ما زالت ماثلة أمام الجميع إن لم تكن تزايدت بحكم سوء الإدارة وتعدد الرؤوس التي تتحكم في مساراته.
لا شك أن عراقيل وصعوبات جمة تقف أمام عملية الانتقال الإيجابي، لكنها تستدعي خطوة أولى لم يتخذها ولم يقترب منها “المجلس” حتى الآن، وأقصد أن يقدم النموذج في ضبط أسلوب عمله واجتماعاته ووضع لائحة تنظم نشاطات أعضائه وأماكن وجودهم، وإذا ما تحقق ذلك فمن المحتم أن الأجهزة الأخرى ستشعر بجديته في توجهاته ومتابعة مستوى إنجازها، وإلى جانب ذلك من غير المقبول أن يستمر نشاط “المجلس” مقتصراً على البيانات المكررة التي صارت مثار سخرية عند الناس، وكذلك كثرة الاستقبالات والصور والاجتماعات عن بعد، واستنزاف المال العام في الإنفاق على الأعضاء بمرتبات سخية لا يستحقونها لأنهم لا يقومون بأي جهد وظيفي يشعر به الناس أو يمكن أن يفيدهم.
قدم “المجلس” كثيراً من الوعود في بداية تشكيله على لسان رئيسه، ثم كررها طوال الأشهر الماضية، وفي واقع الأمر فإنه تخلف عن تنفيذ معظمها إن لم يكن جميعها على رغم أن بعضها لم يكن يحتاج إلى أكثر من المتابعة والإصرار على تنفيذها بخاصة أنها توفر كثيراً من الأموال، وهنا أقصد البعثات الدبلوماسية التي استوطنها كثيرون على كل المستويات متجاوزين الفترة القانونية المسموح بها، وقرار مثل هذا كان يمكن له أن يعطي مؤشراً إلى جدية “المجلس” وحرصه على المال العام ويخفف من الإدمان على استجداء العون الخارجي لتسديد المرتبات.
هناك حقيقة لا يمكن إنكارها هي أن عدم التجانس داخل “المجلس” يمثل سبباً مهماً في تعطيل أية رغبة عند بعض أعضائه لتوحيد المواقف إزاء الأزمات المتكررة والمصطنعة والعاصفة، وما لم يتمكن من وضع خطة عمل حقيقية وملزمة للتعاون مع الحكومة وانتظام اجتماعاته وأعماله وتحركاته فإن الحديث عن استعادة الدولة سيكون أمراً مثيراً للسخرية.
إن الأوضاع المالية البائسة والانفلات الإداري الواضح والتسيب الأمني وندرة الموارد تحتاج إلى عزيمة وإرادة وموقف موحد إزاءها، وهي عوامل لم يتمكن “المجلس” من حسمها وحشدها، وهذا يضعف مشروعيته الوطنية الهشة أصلاً ويهز من صدقيته أمام الناس، وكذلك فإن من الواجب عليه تغيير خطابه السياسي المرتبك والإعلامي المتضخم بما يتوافق مع الإمكانات التي يسيطر عليها.
إن الأحداث المتسارعة التي تدور على الأرض وتدهور الخدمات يحتاجان إلى وجود عاجل ومستدام إلى جانب الناس والعمل على خلق نموذج مغاير وأقل فساداً لما تمارسه جماعة أنصار الله الحوثية في مناطق سيطرتها، ومن الجلي أن انعدام الرؤية وسوء طريقة إدارة “المجلس” سيجران البلاد إلى مسار شلل كامل للمؤسسات التي أصبحت عبئاً ثقيلاً يجب إعادة هيكلتها بعيداً من شعارات المناصفة والمناطقية والانتماءات والاعتماد على الكفاءات أولاً وأخيراً.
لقد جرت خلال الأعوام الماضية عملية تضخم في الجهاز الإداري للمؤسسات تحت شعار “المناصفة”، وهو أمر كان بالإمكان تقبله لو كان مقترناً بالكفاءة والبعد عن الشللية، ولكن المعيار الوحيد الذي تحكم في تطبيق الشعار كان المناطقية الضيقة حتى بلغ الأمر حد تقاسم أدنى الوظائف وتوزيع معسكرات الجيش والأمن بخطوط مناطقية عجز “المجلس” عن توحيد مهماتها الوطنية وعقيدتها العسكرية والوضع نفسه جرى تطبيقه في السفارات.
وإذا استمر “المجلس” في تعامله المتردد والمضطرب إزاء التغييرات التي يجب إجراؤها لتشغيل وتنشيط وضمان استقلالية وحيادية المؤسسات الرقابية، فإن الشلل الكامل سيصيب البلاد وسيصبح الحديث عن استعادة الدولة والعودة لصنعاء أمرين يثيران السخرية، ولا يمكن توقع الخروج من هذا الوضع الكارثي بهذه الأدوات التي صار الوطن لا يمثل لها سوى ارتباط لجني المكاسب المادية ومجرد انتماء بالهوية، ومن العسير الخروج من هذا المأزق الأخلاقي والوطني بوجود عناصر لا ترى إلا مصلحتها الخاصة وترتيب أوضاعها.