مقالات

تآكل الهيمنة العالمية للدولار


لا يمكن إنكار التحديات التي تواجه وضع الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية. وبينما أشار الاقتصاديون لسنوات إلى أن هيمنة الدولار ليست أمرا مسلّما به، إلا أن جلهم لم يولوا اهتماما كبيرا للتحذيرات، وخاصة أولئك الموجودين في أروقة السلطة الأميركية.

وتبرز اليوم أسئلة جديدة حول كيفية نمو الاقتصاد العالمي خارج قبضة الولايات المتحدة خاصة بعد غزو أوكرانيا وفشل العقوبات الأميركية في توجيه ضربة حاسمة للاقتصاد الروسي.

وبلغت هذه النقاشات ذروتها في مفاوضات إنشاء عملة لمجموعة بريكس. وتطرح مجموعة بريكس، التي تجمع البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، بديلا للمنظمات الدولية التي يسيطر عليها الغرب مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.


وتحتلّ اقتصادات هذه الدول مجتمعة موقعا مهما في الاقتصاد العالمي، ويمتد تأثيرها إلى مناطق خارج المدار الأميركي في الجنوب العالمي. ومن شأن إنشاء عملة مشتركة بين هذه الاقتصادات أن يقلب التجارة الدولية ويمثل تحديا واضحا للدولار الذي يبقى العملة الاحتياطية العالمية.

فالنقاش حول بريكس يلقي بظلاله على التطورات الأكثر أهمية التي تقضي بهدوء على الهيمنة الحالية للدولار. فخلال الشهر الحالي، اتفقت الهند والإمارات العربية المتحدة على استخدام عملتيهما المحليتين في المعاملات عبر الحدود. وقد لا يبدو هذا مهما، حيث تتداول البلدان بعملاتها المحلية بشكل عادي. لكن هذا التطور الصغير يضع أسس تغييرات جذرية في المستقبل القريب.

وتعدّ التجارة بين الهند والإمارات مزدهرة. وبلغت التجارة الثنائية 84.5 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من أبريل 2022 إلى مارس 2023.

ويقود النفط هذا الاتجاه المتنامي، حيث تبقى الهند واحدة من أكبر مستوردي النفط ومستهلكيه في العالم. وتعدّ الإمارات في المقابل ثاني أكبر مصدر للتحويلات المالية للهند. وتعتبر التحويلات التي يرسلها الهنود العاملون خارج الوطن إلى بلادهم حيوية للاقتصاد الهندي. وتلقت الهند خلال السنة المالية 2021 – 2022 حوالي 90 مليار دولار من التحويلات، وهي أعلى نسبة سجلتها.

واعتُمد الدولار لمدفوعات التحويلات ومبيعات النفط لعقود. لكن التركيز الجديد على التداول بالعملات المحلية يخلق تحولا واضحا بعيدا عن الدولار. وقال أحد المسؤولين المطلعين لرويترز إن الهند قد تدفع أول دفعة بالروبية مقابل النفط الإماراتي لشركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) في الأشهر المقبلة.

ويتمثل جزء من قوة الدولار بصفته عملة احتياطية عالمية في كيفية استخدامه في المعاملات بين دول مثل الإمارات والهند. وهذا يبدو جليا في تجارة النفط، بما أن تداوله يجري على المستوى العالمي بهذه العملة بشكل شبه كلي.

وإذا كانت الولايات المتحدة تريد معاقبة القرارات الجيوسياسية التي تتخذها دول أخرى مثل روسيا، فيمكنها استغلال سيطرتها على الدولار في تجارة النفط. وكان هذا من الأسباب التي جعلت الصين تستثمر بنشاط في المملكة العربية
السعودية.

وعملت الصين على استمالة السعودية ضمن مساعيها المستمرة منذ سنوات لكسر اعتماد تجارة النفط على الدولار وتحويله إلى اليوان.


وطرحت بكين فكرة اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، وحاولت شراء حصة أقلية في أرامكو السعودية، ورحبت باستثمارات الرياض البالغة المليارات من الدولارات.

وأثار التقارب قلق الولايات المتحدة، لكن إدارة جو بايدن أثبتت عدم قدرتها (أو رغبتها) في منع تطور العلاقة التي تجمع بين الصين والسعودية. واستفادت المملكة كذلك من كونها مصدّرا رئيسيا للنفط الخام إلى الهند وطوّرت طموحاتها الجيوسياسية المرتبطة بصياغة سياسة خارجية مستقلة.

وقد تبدو هذه التطورات صغيرة إذا دُرست منفصلة، ولكنها تُبرز مجتمعة حدوث تحول عميق في الاقتصاد العالمي. وتعمل الاقتصادات الرئيسية في الجنوب العالمي على إقامة شراكات تسمح لها بتحريك اقتصاداتها بعيدا عن الدولار حتى دون إنشاء عملة بريكس.

وفي جزء آخر من العالم، تناقش البرازيل والأرجنتين إنشاء عملة مشتركة. وفي حين قد يبدو تحقيق هذه الخطط أمرا غير مرجّح في الوقت الحالي، يوضع أساس من شأنه أن يتحدى هيمنة الدولار جديا. وتحتاج الولايات المتحدة إلى إستراتيجية جديدة للتعامل مع هذه التحديات، ولكننا لا نرى بادرة واحدة في واشنطن في هذا الاتجاه
حتى الآن.

ومن الضروري ألا نركز على الشجرة التي تحجب الغابة، حيث لن تنتهي هيمنة الدولار بسبب عملة منافسة واحدة مثل عملة بريكس. لكن القوة والهيمنة ستتراجعان بسبب الخطوات الصغيرة التي تتخذها الدول التي تفضل التحكم في شؤونها دون تأثير دولة تتحكم في الاحتياطي العالمي. وتساعد الصين، باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، دولا أخرى مثل السعودية، في مسعاها للتحول إلى قوة عالمية. ويحدث كل هذا في الوقت الفعلي. وليس عليك سوى إلقاء نظرة على التفاصيل.


جوزيف دانا
كبير المحررين في نشرية “إكسبوننشال فيو” التكنولوجية

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى