البشرية تقاد إلى الجحيم دون سلاسل
الساعة الآن الخامسة صباحا، مكيف الهواء يعمل بطاقته القصوى، ويكافح لتبريد شقة مساحتها 90 مترا بناها الإيطاليون قبل مائة عام، في العاصمة التونسية.
الصوت الوحيد الذي يمكن سماعه فحيح أجهزة التكييف، عددها بالآلاف في منطقة تقطنها الطبقة المتوسطة والميسورة.
لا أعرف إن كان عليّ أن أشكر مخترع مكيف الهواء المهندس الأميركي ويليس هافيلاند كارير الذي اخترع أول وحدة تكييف هواء كهربائية عام 1902.
في درجة حرارة تحوم حول أربعين مئوية على مدى ثلاثة أسابيع تقريبا، وتوقعات الأرصاد أن تقارب الخمسين في الظل، ما يستحقه كارير هو تبجيل ذكراه وتكريمه، وهذا ما فعله مواطن تركي في ولاية أضنه جنوبي تركيا حيث بلغت درجة الحرارة 40 مئوية، فعلق لافتة أمام محل حلويات يمتلكه كتب عليها عبارة “في هذا اليوم الحار والصعب نستذكر باحترام ويليس هافيلاند كارير، الذي اخترع مكيف الهواء”.
المشكلة أن جهاز التكييف مثل حلوى المواطن التركي، حلوة المذاق، إلا أن أضرارها وعواقبها على الصحة كبيرة. أجهزة التكييف، تحمينا من الحر، إلا أنها تساهم في زيادة انبعاث غازات الدفيئة التي تسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض وبالتالي تغيير المناخ، وتستهلك كميات كبيرة من الطاقة، التي تنتجها مصادر غالبا غير متجددة أو ملوثة مثل الفحم والنفط.
هذا بالطبع إلى جانب التلوث الضوضائي والتقليل من رطوبة الهواء وزيادة تركيز الملوثات والميكروبات.
ولأن البشرية تعمل وفق القول “أنا ومن بعدي الطوفان”، سنستمر بتشغيل أجهزة التكييف في بيوتنا، ونستمر في ركوب السيارات والسفر بالطائرات والسفن العملاقة وقطع الأشجار وتلويث البيئة. وتستمر حكوماتنا التي تقف من ورائها شركات عملاقة، بانتهاج مبدأ طالما سمعت جدتي، التي لم تكن تعرف القراءة والكتابة وعاصرت الحرب العالمية الأولى، تردده: “من بعد حماري لا ينبت الحشيش (العشب)”.
وهذا ما حدث بالفعل؛ بعد أن ماتت جدتي ومات حمارها، لم ينبت العشب.
في عام 1917 لم يكن العالم قد سمع بعد عن التصحر والجفاف والتغيرات المناخية والأزمات الغذائية، صحيح أنه شهد أكثر من مجاعة، ولكن السبب من ورائها كانت الحروب.
إذا كان لجدتي عذرها، فهي كما أشرت لا تقرأ ولا تكتب، فما هو العذر الذي يمكن أن نجده لقادة دول مجموعة العشرين الذين أخفقوا في تبني خارطة طريق لخفض تدريجي للوقود الأحفوري. وبدلا من أن يصدر عنهم نداء واضح لوقف التدهور المناخي، تمسك كل بحماره، في وقت يشهد فيه العالم خروج تأثيرات التغيّر المناخي عن السيطرة، وتسجيل درجات حرارة قياسية وفيضانات وعواصف وحرائق.
الغريب أن البيان الختامي الصادر في نهاية الاجتماع خلا تماما من أيّ ذكر للفحم “الوقود القذر”، الذي يعد من العوامل الكبرى المسببة للاحترار العالمي. وهو مصدر أساسي للطاقة في عدد من الاقتصادات النامية على غرار الهند، أكبر دول العالم من ناحية التعداد السكاني، والصين، ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم.
وفي معرض شرحها للمأزق، قالت الهند التي تتولى رئاسة مجموعة العشرين إن بعض الأعضاء أكدوا على أهمية السعي إلى “خفض تدريجي لاستخدام الوقود الأحفوري، بما يتماشى مع الظروف الوطنية المختلفة”؛ أي بما يتناسب وحمار كل منها.
ويمكن من قراءة البيان رصد موقفين رئيسين إلى جانب موقف ثالث لدول أوروبية؛ موقف الدول النامية الفقيرة، وموقف الدول الكبرى المنتجة للطاقة.
الدول النامية توجه اللوم إلى الدول الصناعية الكبرى وتحملها مسؤولية تدهور المناخ، وترى أن على هذه الدول أن تدفع الثمن الأكبر بصفتها ملوثة مزمنة ومساهمة في الدفيئة.
وتقول الدول النامية إنّ أي عملية تحوّلية تتطلّب كلفة ضخمة وتقنيات جديدة، معتبرة أن التخلي عن أنواع الوقود الملوثة من دون بدائل يمكن تحمّل تكاليفها سيقود شعوبها إلى الفقر المحتّم.
الدولة الأبرز بين الدول التي تتبنى هذا الموقف هي الهند، البلد المضيف للقمة، وكان أفضل ما يمكنها تقديمه وعد بالتخلّص من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2070، أي متأخرة 20 عاما عن الموعد الذي حدّدته لذلك دول أخرى.
ودعمت الهند موقفها بتقرير أعد خصيصا لمناسبة ترؤسها مجموعة العشرين، تضمن أرقاما تفصيلية تفيد بأن تكاليف العملية التحوّلية في الطاقة تبلغ أربعة تريليون دولار في السنة، وشدد التقرير على أهمية التمويل منخفض التكلفة للدول النامية ونقل التكنولوجيات.
وجاء الموقف الذي تبنته الهند معبرا عن موقف الدول النامية جميعها، حتى ولو لم تكن حاضرة مباشرة في الاجتماع.
الموقف الثاني هو موقف المنتجين الكبار للنفط، وهو موقف يعارض أيّ تخل سريع عن الوقود الأحفوري. وحمّل ممثل شبكة التواصل بشأن المناخ “جي أس سي سي” إد كينغ هذه الدول مسؤولية عدم إحراز تقدّم في الاجتماع.
وجاء في تغريدة أطلقها إن البلدين (روسيا والسعودية) “عرقلا جهودا للتوصل إلى اتفاق بشأن زيادة الطاقة النظيفة بمقدار ثلاثة أضعاف وخفض استخدام الوقود الأحفوري”.
ويتطابق موقف البلدين مع مواقف أعضاء آخرين رأوا أن بإمكان تبني تقنيات للتخفيف وإزالة الآثار المترتبة عن ظاهرة الاحترار.
وهو الموقف الذي عبر عنه رئيس الدورة الثامنة والعشرين لمؤتمر الأطراف (كوب 28) سلطان الجابر، الذي لا يرى ضرورة لانتفاء دور الوقود الأحفوري، شرط أن يترافق ذلك مع الاعتماد على تقنيات لخفض الانبعاثات أو تحييدها.
وكان مؤتمر الأطراف قد توصل إلى اتفاق بزيادة القدرات العالمية على صعيد الطاقة المتجددة بمقدار ثلاثة أضعاف، ومضاعفة الكفاءة في مجال الطاقة بحلول العام 2030.
الموقف الثالث عبرت عنه قوى اقتصادية كبرى في الاتحاد الأوروبي من بينها ألمانيا وفرنسا، وبعض من الدول الجزرية الأكثر ضعفا، والتي حضت مجموعة العشرين على تسريع خططها للتخلص تماما من الانبعاثات والتخلي تدريجيا عن الوقود الأحفوري، مشددا على أن “البشرية لا يمكنها تحمل التأخير”.
ودعت هذه الدول إلى تحديد سقف لانبعاثات غازات الدفيئة يسري اعتبارا من العام 2025 على أبعد تقدير، وخفضها بنسبة 43 في المئة بحلول عام 2030 مقارنة بمستويات عام 2019، بما يتماشى مع التوصيات الأخيرة لخبراء المناخ في الأمم المتحدة.
واضح من إلقاء نظرة على ما يحدث حولنا في مناطق كثيرة من العالم، أن العد التنازلي لإنقاذ كوكب الأرض قد بدأ. وواضح أكثر أن أي حل لمشكلة المناخ لن يتم إلا بتقارب وجهات النظر الثلاث.
البشرية تقاد إلى الجحيم دون سلاسل.. الطوفان هذه المرّة لن يستثني أحدا.
علي قاسم
كاتب سوري مقيم في تونس