غادة السمان رائدة أدب الاعتراف في الثقافة العربية
كاتبة شاملة تحررت من الأنواع الأدبية ومشت باللغة بين الألغام.
سبقتها ليلى عسيران إلى الأدب والدفاع عن قضايا المرأة، حريتها واستقلالها ومشاركتها في الحياة العامة، ولكنها نجحت في الوقوف إلى جانب ليلى بعلبكي وكوليت خوري وقد تكون قد تفوقت عليها من جهة غزارة إنتاجها وسعة أفق تفكيرها.
ليس من الصواب الحديث عن غادة السمان باعتبارها كاتبة نسوية، بالرغم من أنها لم تتخل لحظة واحدة عن الخطاب النسوي الذي لم تضعه واجهة لأدبها.
غلبها النثر
ابنة دمشق المترفة فاجأت الأوساط الأدبية العربية بكتابها القصصي الأول “عيناك قدري” عام 1962 وكانت في العشرين من عمرها. كانت يومها طالبة في الجامعة السورية. غير أن البداية القصصية لم تثن السمان عن كتابة الشعر.
ما أصدرته من كتب الشعر هو أكثر من كتبها القصصية والروائية غير أن النثر غلبها فصار عليها أن تفتح صفحة جديدة للنثر العربي بعد أن اختفى كبار كتابه. لقد أصدرت السمان كتبا يصعب وضعها في نوع أدبي بعينه.
عناوين كتبها تدل عليها “أعلنت عليك الحب” و”زمن الحب الآخر” و”حب” و”عاشقة في محبرة” و”الحبيب الافتراضي”. ذلك ما تكشف عنه العناوين. ولكن عالم ما تحت العناوين يشبه إلى حد كبير عالم ما تحت اللغة وقد أجادت السمان في التعبير عمّا تفكر فيه وهي تقيم في العالمين. لقد عرفت كيف تطوع اللغة لا من أجل خلق أسلوبها الخاص حسب بل وأيضا من أجل الوصول إلى غايتها التعبيرية. كاتبة مزجت بين حياتها الشخصية ومحاولتها الأدبية.
على خطى نزار قباني أسست غادة السمان دار نشر خاصة بكتبها. أليس في ذلك دلالة على أن الجمهور كان يقبل على شراء كتبها كما لا يفعل مع أيّ كاتب آخر؟ ذلك أمر مؤكد. للسمان لغتها الساحرة ولكنْ لديها أيضا عالم أخاذ يجعل من القراءة نزهة في حقول تشبه تلك الحقول التي رسمها الفرنسي إدوارد مونيه. عليك أن تغطس كثيرا لتشعر بقيمة الهواء الذي تتنفسه. لقد اخترعت غادة السمان ممرات جديدة تصل إلى الجمال منفتحا على معانيه كلها.
غادة السمان كاتبة شاملة. لا لأنها تحررت من الأنواع الأدبية التي ربما تحن إلى بعضها بل لأنها أيضا تأبطت اللغة ومشت بين الألغام محتفية بأناقة مزاجها.
تلك امرأة خُلقت من أجل الكتابة. في الوقت نفسه صنعت من الكتابة عالما من حرير. نسجت من اللغة سجادة مغرية للحواس. يمكن لمَن يقرأ نصوصها أن يستعين بخياله لا من أجل أن يفهم بل من أجل أن يتمتع مشدودا إلى عالم يقع بين الواقع والخيال. أن تقرأ نصا من نصوصها فذلك معناه التحليق في فضاء لغوي متفجر.
ولدت غادة أحمد السمان عام 1942 في دمشق. درست الأدب الإنجليزي في الجامعة السورية وتخرجت عام 1963. بعدها درست مسرح اللامعقول بالجامعة الأميركية ببيروت ونالت شهادة الماجستير ثم حصلت في القاهرة على شهادة الدكتوراه. عملت في التعليم والصحافة معا.
عام 1962 أصدرت كتابها القصصي الأول “عيناك قدري”. تلاه “لا بحر في بيروت” عام 1965. أما روايتها الأولى “بيروت 75” فقد صدرت عام 1975. بعدها أصدرت خمس روايات.
وفي مجال الشعر أصدرت السمان تسعة كتب شعرية كان “حب” أولها وقد صدر عام 1973. وفي أدب الرحلات أصدرت خمسة كتب منها “الجسد حقيبة سفر” و”رعشة الحرية”. وفي مجال الكتابة الحرة أصدرت حوالي عشرين كتابا، منها “صفارة إنذار داخل رأسي” و”القبيلة تستجوب القتيلة” و”الحب من الوريد إلى الوريد”.
الحياة قبل الخلود
ما من كتاب من كتبها توقف عند حدود الطبعة الأولى إلا في ما ندر. واحد من كتبها طبعته 14 مرة. وذلك يعني أن هناك إقبالا من القراء على قراءة كتبها بالرغم من أنها ليست كاتبة شعبوية بل تميل بلغتها المشدودة وخصوصية موضوعاتها إلى نوع راق من الأدب. ما السر إذاً في ذلك الإقبال.
“متى يلملم قلبي الضال مواسم جنونه،/ومتى تحنو القسوة على ذاتها،/وترق الشراسة على جروحها؟” تقول السمان في إحدى قصائدها التي تنتهي بـ”وحده الحزن/يطل لا متناهيا واثقا من نفسه/وحده يعرف كيف يملكني/وفي ملكوته وحده/أعرف شهقة التلاشي”.
تعرف السمان كيف تجذب قراءها إلى عالمها من خلال الكشف عن عيوب الذات من خلال ما يُسمى بالاعتراف. ما تكتبه هو قريب في الجزء الأعظم منه من أدب الاعتراف الذي لم تعرفه الثقافة العربية إلا فيما ندر.
من خلال ما يقرأه يجد القارئ صورته في المرآة، كما هو وعلى حقيقته لا كما يظهر في الواقع.
“لا تخن حياتك فأنت حي” تقول بعد أن وضعت حياتها تحت مجهر الكتابة. وليس يسيرا على كاتبة من نوعها أن تفصل بين حياتها والكتابة. الكتابة هي حياتها التي تجري على الورق فيما يمكن أن تشك أنها عاشت حياتها من غير أن تضع إصبعها على سطر من السطور التي كتبتها.
حين تقول “ليتنا نصنع الحياة قبل أن نصنع الخلود” فهي تعرف أن قفزة غير موفقة قام بها الإنسان منذ ملحمة جلجامش لا تزال تثقل عليه وتفسد أحلامه. فالخلود كلمة مبهمة أما الحياة فهي معنى العيش المباشر الذي تطلقنا أسئلته مثل غزلان في دائرة لامتناهية.
لذلك كتبت السمان من أجل أن تهبنا صورة لإنسانيتها الحرة لا من أجل أن تفسر ألغاز حياتنا أو تفر بتلك الألغاز إلى معنى غامض هو الخلود. بهذا المعنى تكون كاتبة واقعية ولكنه معنى بحدود ضيقة. ذلك لأن السمان كانت ولا تزال تبحث عما يمكن أن تهبه الكتابة من معان لحياتها.
حكايتها مع غسان
“نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني” بهذه الجملة تبدأ غادة السمان كتابها/كتابه المعنون بـ”رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان” الذي نُشر بطبعته الأولى عام 1992 ثم تتالت طبعاته. كلما صدرت طبعة من ذلك الكتاب تصاعدت الأصوات المعجبة والغاضبة. لا أحد طعن بمصداقية الرسائل ولكن هناك مَن تساءل “لمَ لم تنشر غادة رسائلها إليه؟” فتكون القضية قد سويت.
لو لم يكن ذلك الرجل هو غسان كنفاني لكانت لتلك الرسائل حكاية أخرى. ولكن كنفاني رمز وأيقونة لنضال شعب إضافة إلى كونه كاتبا مهما، على الأقل في مرحلته فيما أظهرته الرسائل كائنا معذبا بالحب. وحدها غادة السمان تدرك ما لا يدركه الآخرون من أهمية نشر تلك الرسائل.
يحق لغسان من وجهة نظرها أن يتمتع بوجهه الإنساني بمعزل عن وجهه الوطني المناضل. الرسائل هي وقت مستقطع من زمن البطولة والصلابة والعناد.
ذلك هو كتابه، كتاب غسان كنفاني إذ أنه احتوى على كتاباته في رسائله وهو في الوقت كتابها إذ أنه ينتمي إلى أدب الاعتراف الذي حملت رايته في وقت مبكر من حياتها.العرب