جيوش المرتزقة ستبقى معنا مدة طويلة
وكلاء لن تتخلى عنهم الدول
رغم التمرد الخطير الذي قامت به مجموعة فاغنر في روسيا، يرى الكثير من المحللين أن المرتزقة يعودون ليثبتوا مكانتهم في تحقيق أهداف الدول العظمى؛ حيث سيكشف المستقبل المزيد من اعتماد الدول على الحروب بالوكلاء لتوسيع نفوذها، لكنها لا تستخلص عبرة أن هؤلاء المرتزقة يمثلون أكبر المخاطر التي تهددها في حال تمردوا عليها.
واشنطن – كتب نيكولو مكيافيلي عام 1513 في كتابه عن الفنون السياسية “الأمير” أن “المرتزقة والوكلاء عديمو الفائدة وخطيرون”. وتلقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا تذكيرا بهذا. ففي الفترة الممتدة من 23 إلى 24 يونيو الماضي قرر محارب الغزو الأوكراني الروسي الذي يدير فاغنر، يفغيني بريغوجين، الانقلاب على موسكو قبل أن يتراجع بسرعة.
فاجأ التمرد الكرملين ومعظم المراقبين بسبب ولاء بريغوجين المفترض لبوتين ولأن عصر ثورات المرتزقة في أوروبا بدا أمرا من الماضي. لكن المحلل السياسي ريان بول يرى في مقال لمعهد ستراتفور الأميركي أن التطور لم يكن ليفاجئ مكيافيلي ولا قادة تاريخيين آخرين مثل الإسكندر الأكبر، وغوستافوس أدولفوس ونابليون بونبارت الذين اعتمدوا جميعا على المرتزقة بفوائدهم ومخاطرهم في حملاتهم العسكرية. والأهم من ذلك أنهم ربما كانوا قد تعاطفوا مع بوتين، لأن الأساس المنطقي لاعتماد المرتزقة لم يتغير كثيرا على مر القرون.
وعلى الرغم من انتكاسة العلاقات العامة في القطاع بسبب انقلاب فاغنر، ستستمر الدول في دعوة المرتزقة إلى خوض أنواع معينة من الحروب.
مهنة قديمة
استخدام المرتزقة سيؤدي إلى إذكاء النزاعات، وخاصة في الحروب الأهلية حيث لا تُظهر القوى العظمى اهتماما بالتدخل
استخدام المرتزقة سيؤدي إلى إذكاء النزاعات، وخاصة في الحروب الأهلية حيث لا تُظهر القوى العظمى اهتماما بالتدخل
تعود مهنة المرتزقة وولاءاتهم المريبة إلى انطلاق الحرب المنظمة في التاريخ. ويقدر آلان أكسلرود في كتابه “المرتزقة” أن أول دليل على استئجار المسلحين كان منذ آلاف السنين خلال أول حملة عسكرية مسجلة في التاريخ. فعندما غزا الفرعون تحتمس الثالث سوريا في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، قدر أكسلرود أن الحجم المسجل للجيش المصري فاق عدد سكان مصر، مما يشير إلى وجود مرتزقة في صفوف المحاربين.
وسُجّل استخدام المرتزقة في زمن اليونان الكلاسيكي، بدءا من القرن الخامس قبل الميلاد. وكان المرتزقة بحلول ذلك الوقت معتمدين روتينيا ومثلوا جزءا عميقا من الثقافة العسكرية اليونانية. وكان الجنود اليونانيون يغيرون ولاءاتهم بين المتحاربين، وعملوا حتى لصالح بلاد فارس، عدوة اليونان اللدودة. وغيّر المرتزقة ولاءهم خلال غزو الإسكندر الأكبر للإمبراطورية الفارسية، وغيروا مواقفهم أثناء الغزوات البربرية التي أدت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية.
وبعد قرون عدد مكيافيلي في كتابه أمثلة على كوندوتييرو (زعيم مرتزقة) خائن يقفز من سفينة إلى أخرى. في الواقع كانت قوات المرتزقة جزءا رئيسيا من حروب التاريخ الأوروبي، من حرب المئة عام إلى حرب الثلاثين عاما. وبدأ المرتزقة يخسرون جاذبيتهم بعد حرب الثلاثين عاما عندما أصبحوا مرتبطين بالعنف المتطرف الذي ميز الصراع الطويل. لكن الصورة العامة السيئة لم تكن السبب الوحيد الذي جعل المرتزقة غير محبوبين. فبحلول القرن السابع عشر صارت الدول الأوروبية تعمل جاهدة على بناء إمبراطوريات العالم الجديد التي جلبت ثروة وموارد كافية بما جعلها قادرة على اعتماد الجيوش الدائمة.
وفي الأثناء استلزمت المماليك الاستعمارية البعيدة، التي ابتليت بالقرصنة واللصوص الأوروبيين المتنافسين، قوات عسكرية دائمة وأكثر احترافا يمكن أن تستجيب لمشاكل الإمبراطورية. ومع وصول نابليون إلى السلطة في تسعينات القرن التاسع عشر، كان المرتزقة موجودين في جيوب بأوروبا، على الرغم من أن معظم الدول اعتمدت على الضباط المحترفين والتعبئة الجماهيرية.
وأصبح هذا هو المعيار العسكري الأوروبي (وبالتالي الدولي) خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث كانت قوات المرتزقة لا تزال موجودة ولكن كوحدات غريبة أو أفراد مغامرين بدلا من كونها قوى بارزة على المستوى الإستراتيجي.
لكن الحرب الباردة بعثت حقبة الحروب بالوكالة، مما بث روحا جديدة في المهنة، خاصة في الغرب. ومع تطور القانون الدولي لحظر مجموعات المرتزقة التقليدية، تغيّرت تسمية الجنود المغامرين إلى أفراد الشركات العسكرية الخاصة المركّزة على توفير الأمن في الأماكن التي لا تستطيع الدولة تغطيتها لسبب من الأسباب. وبعثت هذه الشركات العسكرية الخاصة جيوشا بالوكالة مفيدة في الحرب الباردة، لاسيما في أفريقيا. واستخدمت مجموعات مثل ووتش غارد انترناشيونال ميزاتها القانونية لإجراء عمليات عسكرية لم تستطع بلادها الأصلية، المملكة المتحدة، حشد الإرادة العامة أو السياسية لإتمامها بنفسها.
وبعد الحرب الباردة، ومع انتصار الرأسمالية على الشيوعية، بقي النظام العالمي مجزّأ بالصراعات والانقسامات بين القوى العظمى بحيث أمكن للشركات العسكرية الخاصة أن تزدهر وتنشط في البلدان التي ابتليت بالحرب الأهلية وحركات التمرد، بما في ذلك العراق وأفغانستان والصومال وسوريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ونشأت مجموعة فاغنر من الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا في 2014، حيث احتاجت موسكو إلى قوة مقاتلة تفتقر إلى الإرادة السياسية لتعبئة سكانها في قوة واحدة. ونشرت قوات فاغنر في أفريقيا والشرق الأوسط، ومؤخرا على الخطوط الأمامية في أوكرانيا، وخاصة حول مدينة باخموت.
لكن لماذا تخاطر الدول باعتماد المرتزقة؟
يعدّ المرتزقة وحدة عسكرية قديمة ترجع إلى عهد نشوء الجيوش نفسها. وتبقى لأسباب منطقية مثالية للحروب التي تكتسي أهمية بالغة بالنسبة إلى الدولة ولكنها أقل أهمية بالنسبة إلى المواطن أو الرعية. كما أنها خزان مهم للمحاربين القدامى وتوفر المرونة للدول المهتمة بالتدخلات المحدودة.
وغالبا ما يحل المرتزقة مشاكل القوى العاملة. ماذا يحدث، على حد تعبير أولئك الذين احتجوا على حرب فيتنام في الستينات، عندما تشن دولة حربا ولا يأتي أحد؟ في حين يعدّ هذا التبسيط مفرطا، كان الواقع منذ فترة طويلة أن للعديد من الحكومات عبر التاريخ نفوذا عسكريا يفوق قبضتها السياسية.
في بعض الأحيان تكمن المشكلة في أن الدولة لا تستطيع تنظيم عدد المواطنين المطلوب لتزويد جيش كبير بما يكفي لخوض الحرب التي تتصورها. ويكون النظام السياسي الذي يحكم الدولة في أحيان أخرى حساسا تجاه أعداد الضحايا. ويبقى المال من حيث رأس المال السياسي أرخص من حياة المواطنين أو الرعايا. وغالبا ما يتدخل المرتزقة المتطوعون لذلك من أجل ملء الفراغ في الأوقات التي تكون فيها الحرب في مصلحة الدولة وليس في مصلحة الشعب.
كما كان المرتزقة، إلى حدود القرن الثامن عشر، من التشكيلات العسكرية الدائمة القليلة والمزودة بمحاربين قدامى متمرسين. وكانت الجيوش الدائمة ولا تزال باهظة الثمن. وعادة ما تُحل الجيوش بعد انتهاء الحروب في عصر ما قبل الحداثة. وتتراجع المهارات العسكرية والتنظيمية المكتسبة حتى تندلع الحرب التالية التي تتطلب التعبئة من جديد. لكن المرتزقة كانوا يتنقلون ويجدون ساحة معركة جديدة، حيث لم تكن لديهم مزارع أو منازل يرجعون إليها. وغالبا ما تتفطن الدول التي تبحث عن جنود جاهزين إلى فائدة المرتزقة، خاصة عندما يستغرق بناء الوحدات وقتا طويلا أو يتطلب أموالا طائلة.
وغالبا ما تزدهر مهنة المرتزقة في أوقات عدم الاستقرار الجيوسياسي الذي يقلب النظام التقليدي ولكنه لا يرتقي إلى مستوى الحرب الوجودية التي تمس المجتمع وتحشده على نطاق واسع. وكانت دول المدن اليونانية تضرب بعضها البعض لكنها نادرا ما بلغت درجة الدمار. وكانت حروب إيطاليا خلال عصر النهضة تدور حول المكانة والثروة والشرف بقدر التوسع الإقليمي. وحتى في العصر الحديث، وخاصة في أفريقيا جنوب الصحراء، يجد المرتزقة (بمن في ذلك قوات فاغنر) صراعات أهلية لا يستطيع فيها الفاعلون هزْم خصومهم تماما أو لن يتمكنوا من ذلك. وفي العصر الحديث وجد قائد فاغنر فرصة في حالة عدم الاستقرار داخل أوكرانيا بعد ثورة الميدان التي اعتبرتها موسكو تهديدا لأمنها القومي، ولكنها ليست تهديدا كبيرا إلى حدّ تعبئة الأمة بالكامل للحرب.
وبالمثل وجد مؤسس شركة بلاك ووتر، ومقرها الولايات المتحدة، إريك برنس فرصة لبعث مرتزقته في اضطرابات عراق ما بعد غزو 2003، التي اعتبرتها واشنطن محورية بالنسبة إلى الأمن الأميركي ولكنها لا تمثل للولايات المتحدة صراعا وجوديا.
كما أن مخاطر تصعيد المرتزقة أقل إذا اصطدموا بالقوات المسلحة التقليدية لدولة منافسة. وخاضت فاغنر في 2018 معركة مع الولايات المتحدة في خشام السورية وأسفرت عن مقتل مئات الروس. لكن لم يحدث أي تصعيد نظرا لتصنيفهم من الناحية الفنية على أنهم مرتزقة وليسوا من القوات الروسية النظامية. واستغرق الإبلاغ عن المشاركة الروسية في المعركة أسابيع.
حدود المرتزقة
اا
قد يتقلص مكان المرتزقة في عصر المنافسة المتنامية بين القوى العظمى. وجاء التمرد الأخير لمجموعة فاغنر بعد أن أمرت وزارة الدفاع الروسية بحل المجموعة الخاضعة لسيطرتها رسميا، حيث واجه الجيش الروسي ضرورة توحيد هيكل قيادة الحرب في أوكرانيا بينما استمر في مواجهة الانتكاسات في ساحة المعركة.
ويرى بول أنه كلما زادت أهمية الحرب في أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا وسكانها، قل الدعم المتاح للمرتزقة لشن عمليات مستقلة عن الحكومة المركزية. كما اختفت المساحة الضيقة التي يمكن أن تزدهر فيها فاغنر في أوكرانيا بين السنة المنقضية والسنة الحالية.
وبينما استغلت الولايات المتحدة الشركات العسكرية الخاصة في حربها طويلة الأمد على الإرهاب، من غير المرجح أن تعتمد على المرتزقة لردع القوة العسكرية الروسية والصينية. وأبرزت معركة 2018 في سوريا ضد القوات الأميركية النظامية أن قوات فاغنر غير قادرة على مجاراة القوات المسلحة لدولة منظمة. ولئن أظهرت معركة خشام أن الشركات العسكرية الخاصة مفيدة في تجنب التصعيد، فقد أكدت أنها أيضا أقل فائدة في الردع.
ومع تصاعد المنافسة بين القوى العظمى تنشر الدول العالقة في المنتصف المرتزقة في المناطق التي تحمل مصلحة في استغلال تصدعات النظام العالمي ولكنها تفتقر إلى الإرادة السياسية للمخاطرة بحياة المواطنين في الخارج.
ويقول المحلل السياسي إنه مع تعدد الأقطاب في العالم يبدو أن تاريخ المرتزقة يُكتب في المناطق الواقعة بين القوى العظمى، حيث تعود الدول القوية إلى اعتمادها على الأسلحة التقليدية للتنافس. وبينما تختبر القوى الوسطى تاريخها مع المرتزقة، فإنها ستتجاهل دروس مكيافيلي، حيث من المرجح أن يخدم المرتزقة الذين توظفهم أو تؤسسهم مصالحها الذاتية. وسيؤدي استخدام المرتزقة في بعض الأماكن إلى إذكاء النزاعات، وخاصة في الحروب الأهلية حيث لا تُظهر القوى العظمى اهتماما بالتدخل. وسيكون المرتزقة مفيدين في حالات أخرى، حتى يروا أن من مصلحتهم أن ينقلبوا على أسيادهم عوض البقاء في خط المواجهة مقابل المال.
لكن يوجد شيء واحد مؤكد؛ فبينما ستعيد الدول التفكير في الطرق التي تحاول بها الحفاظ على سيطرتها على المرتزقة والشركات العسكرية الخاصة في أعقاب ثورة فاغنر في روسيا، لن تجد سببا لإنهاء علاقتها بهم.العرب