نساء الهامش في اليمن
بشرى المقطري
نجم عن ديناميكيات الصراع على السلطة والثروة في اليمن إعادة توزيع المجتمع اليمني تبعاً لمعادلة الثروة، ففي مقابل احتكار سلطات الحرب وشبكاتها الاجتماعية، القديمة والجديدة، مصادر الثروة وقنواتها، التي أصبحت طبقة سياسية واجتماعية واقتصادية متجذّرة، فإنها أعادت، وفق صراعاتها مع خصومها وسياساتها المحلية حيال المواطنين، توزيع المجتمع اليمني، وفق سياق قهري، جذر تمايزاتٍ اقتصادية واجتماعية وسياسيه أنتجت مجتمعا طبقيا، يتعيّن مركزه في قمّة الهرم السلطوي، ثم طبقات اجتماعية متشظّية ومجتمع دون الطبقة، تتوزّع فيه الفئات الاجتماعية الضعيفة التي أصبحت خارج دائرة الثروة وكذلك التمثيل، وإن دفعت أكثر من غيرها كلفة الحرب وسياسات سلطاتها.
تشكّل الفئات الضعيفة في اليمن والمحرومة من الأمن الاقتصادي ووسائل الحماية المختلفة، وبالطبع، تمثيل مصالحها، القاعدة الاجتماعية الأوسع، بحيث ظلّت عرضة للهزّات السياسية والاقتصادية التي شهدتها اليمن، إلا أن تبعات الحرب أفقدتها ما تبقّى من وسائلها الدفاعية للتعاطي مع هذه التحدّيات.
وفي حين تشمل هذه القاعدة معظم اليمنيين خارج دائرة سلطات الحرب وشبكاتها والمنتفعين بها، فإن النساء اليمنيات يمثلن مركز هذا المجتمع الهامشي، قوة بلا حماية، وبلا حقوق، ومنتهكة. وقد فرضت عليها مواجهة تحدّيات الحرب وتبعاتها المستقبلية، حيث تتضافر عوامل عديدة في مراكمة أشكال القهر والتنكيل والاستبعاد من سياسات التميّز سياسيا ودينيا واجتماعيا التي تتعرّض لها النساء لتحدّيات الحرب، سواء على المستوى المعيشي والاقتصادي أو الاجتماعي، التي تتعدّى خطورتها حالات التقييد والاستبعاد والمنع ومصادرة الحقوق والحرّيات إلى تحويل النساء إلى قوى معيلة، من دون أن تترتب على ذلك امتيازات، مقابل تخلّي البنى السياسية والاجتماعية التقليدية عن تمثيل مصالح النساء كنوع اجتماعي، وإن تاجرت بها، فضلا عن اهتراء الهيئات التي تمثل المرأة من المنظّمات المحلية إلى الأممية، بما في ذلك النخب النسوية المتصدّرة للمشهد السياسي، إذ إن هذه الهيئات والنخب، وإن وظّفت معاناة النساء اليمنيات لتمويل أنشطتها الموسمية، فإنها ظلّت تحتكر تمثيل النساء، بما في ذلك مطالبهن، وحصرها في التمثيل السياسي والتمكين في سلطات الحرب، مقابل تجاهل التحدّيات التي تواجهها النساء في مجتمع الحرب وأولوياتها.
مجتمعياً، ترادفت تداعيات الحرب في اليمن ونتائجها مع واقع مستدام في تكريس اختلال اجتماعي وديمغرافي واقتصادي وسكّاني، إلى جانب تغيير الأدوار الوظيفية للنوع الاجتماعي، إذا إن اعتماد الحرب على الرجال قوة عسكرية، ضاعف من حجم التحدّيات التي تواجهها النساء أسريا ومجتمعيا، وفضلاً عن معاناتهن النفسية جرّاء فقد أزواجهن، وتحمل مسؤولية تربية الأطفال، بما يعني دورا مجتمعيا وحمائيا، فإن زوجات المقاتلين، وخصوصا من المجتمعات الفقيرة، يفتقدن الأمن الاقتصادي، وأيضا المجتمعي، بحيث يصبحن عرضةً للاستغلال الجنسي، كما أن تزايد اعداد القتلى من المقاتلين، واستمرار الحرب، وإن بين الأطراف اليمنية، أنتج مجتمعاتٍ بلا حماية، هامشية، مكوّنة من أرامل المقاتلين، وهي أسر أمومية، وإن على مستوى الوظيفة فقط، فيما تفتقر لأشكال الرعاية والأمان الاقتصادي والاجتماعي، والحماية، فضلاً عن تحوّل قطاعات واسعة من أطفال هذه الأسر إلى أطفال شوارع.
كذلك، وهذا الأهم، فإن فقدان هذه الأسر المعيل، القوة الاقتصادية المنتجة، نقل هذا العبء إلى المرأة، الأم أو الأخت، من دون أن يمتلكن الحد الأدنى من التأهيل المهني والاجتماعي لمواجهة هذه المتغيّرات، كما لا يترتّب عليه تحسين موقعهن الاجتماعي والأسري، كما أن تضاعف أعداد جرحى الحرب فرض على النساء تحمّل المسؤولية الاقتصادية لأسرهن، بما في ذلك تعرّضها للعنف من الزوج المعاق، فضلا عن الارتدادات النفسية لتجربة الحرب التي يعانيها معطوبو الحرب والمعاقون، والتي تجعلهم في حالة انسلاخ عن المجتمع، عدوانيين، وأيضا لا مبالين حيال احتياجات اسرهم، ناهيك عن مستقبلها بحيث تتولّى الأمهات، إلى جانب وظيفتهن التقليدية، القيام بوظيفة الزوج، حامياً ومعيلاً.
وإذا كان اختلاف وضع النساء من منطقة إلى أخرى قد أدّى الى اختلاف طبيعة هذه التحدّيات ومستوياتها من المجتمع المديني إلى القبلي والزراعي، حيث تقوم المرأة بمهام الرجل والأم، بما في ذلك زراعة الأرض، فإن حياة النساء في مجتمعات النزوح، وإن اختلفت تحدّياتها من المخيمات المعزولة خارج المدن، إلى المخيمات الداخلية، تمثل واقعا أكثر فداحة للبؤس والمعاناة التي تواجهها النساء النازحات، إذ يتحمّلن مشقة مواجهة حياة الشتات، من تبنّي وسائل معيشية تفتقر إلى الحد الأدنى من الأمن الغذائي والصحي، وحماية أطفالهن إلى امتهان مهن اقتصادية حقيرة أحيانا لإعالة أسرهن، مقابل افتقارهن إلى فرص تحسين وضعهن المجتمعي والمعيشي.
وفضلاً عن النساء الأمّيات اللواتي تمثل النساء النازحات والفقيرات قوامهن، فقد تضاعفت أعداد الفتيات الأميات في ظل الحرب، جرّاء حالة الشتات، وأيضاً تردّي الوضع الاقتصادي، بحيث تُخرج الأسر بناتهن من المدرسة، ومن ثم تحرمهن من التعليم. ويرثن، بالتالي، خيارات أمهاتهن المحدودة في الحياة.
وإذا كان ارتفاع نسبة الإناث بالنسبة لعدد الذكور في اليمن قد أنتج فجوة سكانية، كانت لها نتائج اجتماعية واقتصادية في المجتمع اليمني، فإن الحرب الحالية ضاعفت مستويات الفجوة بين الجنسيْن، جرّاء قتلى الحرب من المقاتلين، ما يضاعف التحدّيات التي تواجهها النساء في الوقت الحالي وفي المستقبل أيضا، من تحمّل تبعات الحرب على الصعيدين، الأسري والمجتمعي، إلى جانب التداعيات الاجتماعية التي قد تضرّ بحياة النساء من تفشّي زواج الصغيرات إلى تعدّد الزوجات، وقبلها التبعات الاقتصادية للحرب، حيث تتشكّل معالم مجتمع تقوم به النساء بوصفها قوة إعالة، وإن كانت سمات هذه القوة، إلى حد كبير، افتقارها التأهيل المهني، وأيضا لا تترتّب، إلى حد ما، على أعمالها امتيازات اقتصادية، ناهيك عن سياسية، إلى جانب أنها لا تشكّل قوة إنتاج على الصعيد المحلي أو الوطني.
في مجتمع صاعد وينمو تتعدّد تحدّياته من حالة الكبح التي يواجهها المجتمع اليمني على اختلاف طبقاته وقواه اجتماعيا واقتصاديا وحصره عند حدود الفاقة، مجتمع عطّلته سلطات الحرب وسلبت خياراته في الحياة، إلى جانب استمرار تردّي الأوضاع الاقتصادية التي فرضت عليه تكبّد كلفتها.
وفي معادلة الفاقة وسد الاحتياج اليومي، عند نقطة البحث عن أمن اقتصادي يومي لا أكثر تتحرّك الفئات الضعيفة كالنساء خارج دائرة السلطة، والتمثيل، من قوى الحرب، إلى الهيئات النسوية ونخبها، من رطانتها الجوفاء بمقولات الجندرية التي تسمعها النساء وكأنها أصداء عالم آخر موازٍ، عالم لا يرى ولا يتماسّ مع واقعهن اليومي المعيشي، حيث دفعتهن الأوضاع الاقتصادية الكارثية إلى تكبّد حياة لم تكن خيارهن، وإنما خيارات الآخرين، اقتصادياً وإنسانياً، دخلت النساء اليمنيات الحياة الاقتصادية من أبوابها الخلفية، من قنواتٍ بالكاد تغطي نفقات معيشتهن، فمن نساء الطبقة الوسطى، اللاتي لم يعدن ينتمين لها، الموظفات في القطاع الحكومي، والذي كان عليهن جراء توقف رواتبهن، ورواتب أزواجهن إلى العمل بوظائف لا تتعلق بتخصصهن، ضمن اقتصاد المنزل، بمحدوديته وافتقاره للخيال، وأيضا لتحقيق تراكم اقتصادي يوفر لهن الأمن الاقتصادي ولأسرهن، إلى تجريب بعض النساء مهنا كانت حكرا على الرجال، وإن لم يعكس ذلك، بالطبع، انفتاحا مجتمعيا، بل جرّاء التكيّف مع تحدّيات الوضع الاقتصادي الحالي، كالعمل في محلات البقالة والبيع في المطاعم، وإن قيّدته سلطة جماعة الحوثي، وهدّدت مصادر رزقهن، فضلاً عن تأسيس عملٍ خاصّ بهن، وإن ظلّ، بالطبع، عرضة لتقيدات سلطات الحرب، على اختلافها، وتعرّضهن لصنوف من القهر المجتمع والاستغلال من قطاعات من قوى نافذة، بيد أن الشريحة الأوسع من النساء اللاتي تحفل بهن المدن اليمنية، مدن الحرب، الآن وغداً، وإلى أمد غير منظور، هن نساء مُبعدات، مزاحات، ومجرّدات من كل وسائل الحماية، والأمن الاقتصادي والمجتمعي، عدا التمسّك بإرادة النجاة، نساء أتين من القاع المجتمعي الذي أنتجته الحرب وقواها، وفرضته عليهن، سواء كن نازحات أو مقيمات في المجتمعات المعيلة أو من عطّلت الحرب مصادر عمل أزواجهن، فإنهن أصبحن القوة المعيلة لأسرهن، وإن لم تكن هذه القوة منتجة، أو قد يرتّب عليها تغيير مستواها المعيشي والمجتمعي، إذ إن افتقارهن إلى التعليم جعلهن يعملن في مهن مؤقتة هي سخرة أكثر من كونها مهنة، بمقابل مالي لا يسدّ رمقهن، حيث يتعرّضن للعنف وكذلك لاستغلال مجتمعي وجنسي، حيث اضطرّت آلاف النساء للعمل في المنازل، كعاملات منزلية، وهي المهنة التي لم تكن رائجةً قبل الحرب، ومن العاملات المنزليات إلى جامعات القناني البلاستيكية التي يبعنها مخازن إلى تدوير البلاستيك التي تبيعها للمصانع، ضمن شبكة اقتصادية، ومجتمعية أيضاً، هامشية، ضاعفتها الحرب، يمثل جامع القناني، رجلاً أو امرأة، أدنى درجاتها، يتحركون في هامش حياتي، بالكاد يقيهم من تجنّب حياة العراء والتشرد.
*نقلا عن العربي الجديد