الحوثية في مرحلة ما بعد سقوط الذرائع
يذهب اليمن نحو منطقة معتمة على خارطة اهتمام الإقليم والمجتمع الدولي، وفق وصفة تقوم على حصر نطاق هذا الصراع وآثاره ليراوح مكانه كصراع محلي مهمل ومنسي، كما حدث على سبيل المثال في مسار الحرب الأهلية الصومالية، التي أوصد عليها العالم الأبواب وجعلها تصطلي في فرن محكم الإغلاق من النزاعات المحلية التي لم يسمع أحد ضجيجها حتى اليوم.
يدرك الحوثيون تماما طبيعة التوجهات الإقليمية والدولية الراغبة في محاصرة وتضييق نطاق الحرب اليمنية، وهو ما يتمنونه ويتلاءم مع مشروعهم الانعزالي الذي يسعى لفصل اليمن عن العالم، وإعادة صياغة المجتمع المحلي بما يتناسب مع أهداف هذا المشروع الثيوقراطي الرجعي.
على مدار الشهور الماضية انهمك الحوثيون في أمرين: الأول الإفصاح بشكل أكثر جرأة عن طبيعة مشروعهم الراديكالي الذي يستمد طاقته من عقد وصراعات تاريخية تجعل من هذه الجماعة نسخة شيعية من داعش في طورها السني، فما يقوم به الحوثي اليوم ويطبقه على أرض الواقع في مناطق سيطرته، لا يعدو كونه تطرفا منهجيا لم يسبقه إليه نظام ولاية الفقيه في إيران ولا الحشد الشعبي في العراق ولا حزب الله في لبنان.
أما الأمر الآخر الذي اجتهد الحوثيون في إبرازه خلال الشهور الأخيرة وخصوصا بعد توقف إطلاق النار، هو إظهار أنفسهم كجماعة مسيطرة باتت تمتلك مقومات الردع ولم تعد بحاجة إلى أي اتفاق لتمديد الهدنة أو حتى مبادرة سلام لإيقاف الحرب، ولم يعد هناك ما يشغل الحوثيين سوى تحييد التحالف العربي والمجتمع الدولي والمضي قدما نحو الانقضاض على الخصوم المحليين واستكمال مشروع الجماعة للهيمنة والتمدد.
ومرد الاستهانة الحوثية بالخصوم المحليين والرهان فقط على إخراج الإقليم من دائرة الصراع، هو اعتقاد راسخ مبني على تجارب غير واقعية، تستند إلى فكرة مفادها أنه لولا تدخل التحالف العربي فقط بقيادة السعودية ومشاركة الإمارات الفاعلة في حرب اليمن، لكانت رايات الحوثي اليوم ترفرف على جبال “حوف” أقصى شرق اليمن على حدود عمان.
والحقيقة هي أن دور التحالف كان حاسما بالفعل في عرقلة المشروع الحوثي وكبح جماحه، ولكن دور التحالف لوحده لم يكن ليحسم هذه الحرب على الأقل في جنوب اليمن، ما لم يكن مسنودا بحالة رفض ثقافي واجتماعي وتاريخي لهذا المشروع الثيوقراطي الذي لم يستطع حتى إقناع ما يعتقد أنه حاضنته التاريخية في شمال الشمال.
وإذا كان التدخل الخارجي قد أعاق تقدم آلة الحرب الحوثية، فإنه في ذات الوقت قدم لها المبرر الشعبي لتجريف المعارضين في الداخل والحشد والتعبئة لخوض حرب ذات بعد إقليمي، في تأكيد على حقيقة تاريخية يغفل عنها الكثير من المتابعين لطبيعة الصراع والحرب في اليمن وهي أن جماعة الحوثي جماعة أيديولوجية كان لها عدة أشباه على مدى ألف عام من تاريخ الصراعات في اليمن، وكان هذا النموذج المكرور الذي يمثله الحوثي اليوم دائما ما يعيش وينمو ويزدهر في زمن الحرب، ولكنه سرعان ما يذوي وينكفئ على نفسه في سلسلة من الصراعات الداخلية المميتة في أوقات السلم وانتهاء مبرر العدو الخارجي الذي يتدثر به الحوثي اليوم!
ومرد هذه الحالة من الفشل المرتقب التي يمثلها الحوثيون، عدا عن كونه أمرا تكرر كثيرا عبر التاريخ اليمني، أن الجماعة الحوثية كمثيلاتها من الجماعات، تقتات على الشعارات الدينية والنزاعات المسلحة، وهو أمر تجيده بالفطرة، ولكنها تفشل تماما في تقديم نموذج سياسي أو اقتصادي في مرحلة السلم، وهذا ما شاهدناه ليس فقط في حالة الحوثي، ولكن في جميع النماذج المشابهة التي لم تستطع أن تخرج من دائرة العقد الأيديولوجية والحروب لتقدم نموذجا صالحا في مرحلة السلام.
وإذا كان هذا الإخفاق سمة من سمات جميع الجماعات الراديكالية، فللحوثي خصوصية تجعل منه نموذجا أكثر رداءة ورجعية وحالة متقدمة من الفشل السياسي والاقتصادي، وما نراه من طريقة الجماعة اليوم في إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها، دليل قاطع على أن الحوثية فكرة غير قابلة للعيش وسرعان ما ستنقض على ذاتها، ويبدو ذلك جليا من خلال مظاهر عديدة في مقدمتها الإصرار على استعداء المجتمع الذي يحتضن هذه الجماعة، بينما هي تمتطيه كدابة رخيصة وتشبعه ضربا حتى يصبح أكثر رضوخا وطاعة!
وليس في هذا الوصف مبالغة، أو تحيز سياسي، بقدر ما هي حقيقة ماثلة للعيان يدركها كل من يتتبع القرارات الحوثية في صنعاء وباقي المدن التي تسيطر عليها الجماعة وتمعن في إذلالها تجويعا وجبايات، وتمارس على هذه المناطق وسكانها شتى صنوف التدجين والاستهانة بقدرة المجتمع على الشعور بالألم والإحساس بالظلم الذي يسير بالتوازي مع محاولة الحوثيين فرض حالة من التطويع القائمة على تكريس فكرة الخضوع الديني لسلالة “مقدسة”، تستمد حقها في ظلم الآخرين من نصوص تاريخية مخترعة وهزيلة، تكذبها الفطرة السليمة وتكشفها ممارسات مدعي الحق الإلهي.
صالح البيضاني
صحافي يمني