الخُمس المعطِّل في اليمن
علي المقري
قال الشاعر إبراهيم الحضراني في مقدّمة كتاب “بهجة الزمن في تاريخ اليمن” لتاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني (1281- 1343م)، وهو يتأمل حال اليمن في كثير من الأزمنة الغابرة: “ستعجب أيّها القارئ الكريم لهذه المأساة التي عاشتها اليمن عبر الأجيال، وتتجلّى في هذا الصراع العنيد بين اليمنيين أنفسهم تارة وبينهم وبين من يأتي إليهم من خارج بلادهم تارة أخرى، حتى ظلّت اليمن كالنار المستعرة تأكل نفسها؛ إذ لم يكن هناك هدف تسعى إليه أو غاية تعمل من أجلها، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على ما تنطوي عليه شخصية هذا الشعب من حيويّة تعوزها القيادة الواعية، والعقل البصير”.
أستعيد هذا القول كلّما رأيت حال اليمن، والبلاد تخرج من أزمة إلى حرب ومن حرب إلى أزمة، وها هي الآن تحاول أن ترمّم جراحها بعد ثماني سنوات من الحرب، إلا أن هذا الترميم لم يعد من السهولة إيجاد تصوّر لشكله، أو للخطوات التي يمضي فيها، أو ينبغي أن يمضي فيها. فأزمة تشكيل الدولة اليمنية بعد الحرب، إذا افترضنا أن الحرب انتهت، بدأت تلوح في الأفق وبصورة حادّة أحيانا، ففي 2 يونيو/حزيران الماضي أُعلن قيام مجلس حضرموت الوطني وسط معارضة المجلس الانتقالي الجنوبي الذي على الرغم من تصريح رئيسه عيدروس قاسم الزبيدي بالقول إنهم سينتهجون خيار الحوار “مع كافة المكوّنات في الجنوب”، وجدنا إعلامه وناشطيه يعلنون استياءهم من هذه الخطوة التي تبدو أنّها ستذهب إلى إعطاء إدارة ذاتية لمحافظة أو إقليم حضرموت، وهو ما لا يريده المجلس الانتقالي الجنوبي الطامح إلى انفصال الجنوب أو استقلاله عن الدولة اليمنية. وكان طرح خيار تسمية دولته المنشودة بدولة حضرموت، ضمن خيارات أخرى، في حين يعني تشكيل الإدارة المحلية أن هناك توجها واضحا نحو بناء الدولة الاتحادية اليمنية المكوّنة من أقاليم عدة تشكّلت بفعل القوّة والصراع، وإن غلّبت حضرموت طريق السلم والمصالحة لتكوين هيئتها الإقليمية الخاصة.
هذا الترميم لم يعد من السهولة إيجاد تصوّر لشكله، أو للخطوات التي يمضي فيها، أو ينبغي أن يمضي فيها. فأزمة تشكيل الدولة اليمنية بعد الحرب، إذا افترضنا أن الحرب انتهت، بدأت تلوح في الأفق وبصورة حادّة أحيانا
وكان مشروع دستور دولة اليمن الاتحادية الذي صاغته لجنة عقب مؤتمر الحوار الوطني (18 مارس/آذار 2013- 25 يناير/كانون الثاني 2014) قد نصّ على أن تتشكل اليمن من ستة أقاليم، إلا أن نتائج الحرب، إذا بقيت على ما هي عليه، تنبئ بأن هذه الدولة المتولّدة من الحرب ستتكوّن من خمسة أقاليم هي حضرموت وعدن في الجنوب وتعز وآزال وسبأ في الشمال، بعدما استحوذ الحوثيون على أكثر من إقليمين، إضافة إلى محافظات ومديريات من أقاليم أخرى، بحسب خريطة مشروع الدستور.
وكان الحوثيون اعترضوا على نتائج مؤتمر الحوار التي وضعتهم في إقليم آزال (صنعاء) معتقدين أن ليس لديه موارد اقتصادية، فتردّد وقتها أنهم يطالبون بميناء ميدي في حجّة كمنفذ بحري، ولم يتوقع أحد أنّ ميناء الحديدة سيصير تحت سيطرتهم، إضافة إلى مدخلات اقتصادية وضريبية كثيرة مثل مصانع هائل سعيد في الحوبان ومصنع اسمنت البرح، وهما الهدفان اللذان يصرّ الحوثي بسببهما على عدم التخلي عن جزء من محافظة تعز التي شهدت الكثير من التمزّقات الجغرافية. فهناك محافظة جديدة تنشأ في جزء من مدنها وجزرها، يتردّد أن طارق صالح عضو المجلس القيادي الرئاسي ونجل شقيق الرئيس السابق على عبدالله صالح، يعمل على تشكيلها باسم باب المندب وعاصمتها المخا التي أنشأ فيها مطارا كبديل من مطار تعز الذي يسيطر عليه الحوثيون.
وعلى الرغم من محاولة طارق صالح التصالح مع أبناء مدينة تعز لكي تتكامل مع مكوّن الإقليم الذي يطمح الى تشكيله، أو يكون تحت سيطرته ويصبح في إمكانه رفع صورته فيه، كما يعمل عيدروس الزبيدي في عدن وسلطان العرادة في مأرب، إلا أن البعض من أهالي المدينة ما زالوا لا يتقبلون أي دور له، وهم أحرقوا الأسبوع الماضي صوره في المدينة بعدما رُفعت في حفل تكريمي للفنان محمد محسن عطروش، مما أثار الكثير من الجدال حول أحقية وجوده في هذه المحافظة.
وهكذا، إذ تمضي الوساطات الإقليمية نحو إيجاد حلّ دائم في اليمن نجد أن تصريحات “الحوثيين” لا تزال متشدّدة وغير متقبّلة للكثير من الحلول مما يضع هذه الجماعة في موقع المعطِّل لكلّ طموحات اليمنيين في الخروج من الحرب والأزمة السياسية. فحتى لو تقبّلت الصيغة المقترحة والواقعية في تشكيل الأقاليم، فإنّ ملامح المستقبل تشير إلى أنّها ستبقى بمثابة الخُمس (الإقليمي) المعطِّل، على طريقة “حزب الله” اللبناني الذي يسعى الحوثيون إلى تمثّل جوانب من نهجه السياسي، وهو نهج لا يعيق التنمية والاستقرار فحسب، بل يعيق بناء الدولة ككلّ، في أيّ شكل كان. ذلك أن شكل الدولة الذي يطمحون إليه يتعارض مع كل ما أراده اليمنيون في تاريخهم المعاصر، إذ أعادوا النزعة المذهبية وصاغوا الخطاب السياسي والثقافي والتعليمي بما يخدم توجّههم، فكرّسوا الادّعاء بالحقّ الإلهي في السلطة باعتبارهم من آل البيت الهاشمي، من خلال تغيير مناهج التربية والتعليم برؤية طائفية، وسنّ قوانين محافظة تجاه المرأة والوظيفة العامة متّبعين بذلك النهج الإيراني.
ملامح المستقبل تشير إلى أنّ جماعة الحوثيين ستبقى بمثابة الخُمس (الإقليمي) المعطِّل، على طريقة “حزب الله” اللبناني، وهي تسعى الى تمثّل جوانب من نهجه السياسي، الذي لا يعيق التنمية والاستقرار فحسب، بل يعيق بناء الدولة ككلّ
في المقابل يهتم المجلس الانتقالي في عدن بنشر خطاب الانفصال، أو الاستقلال كما يسميه، أكثر من اهتمامه بالتحالف مع بقيّة القوى للتصدي للنهج الحوثي المهدّد للجميع، والذي وصل إلى حضرموت وشبوة من خلال قصف المنشآت النفطية.
مع هذا الاختلاف حول تشكل هويّة الدولة اليمنية بعد الحرب، تبقى أمام الرئيس اليمني رشاد العليمي وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي، مسؤولية المضي في إيجاد آلية لتوحيد الجيش والقوى الأمنية وعدم الاكتفاء بتشكيل لجنة فقط لهذا الهدف، إلى جانب السعي نحو تأسيس السلطات المحلية بطريقة ديموقراطية منتخبة والقيام بتفاهمات للافادة من الموارد المحلية والوطنية.
المجلة
قبل هذا وذاك، من المهم إيجاد استقرار ولو نسبي لكلّ اليمنيين بعد هذه السنوات من الحرب التي خلّفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى وملايين المشرّدين والجوعى.