الناقلة صافر: استثمار الكارثة اليمنية
بشرى المقطري
برزت أزمة الناقلة اليمنية “صافر” في الإعلام الدولي، مع تحولها إلى تهديد بيئي وملاحي في منطقة البحر الأحمر. فوفقا للتقارير الإعلامية، يرفع تدهور حالتها الهيكلية مستويات المخاطر إلى حدوث تسرّب نفطي في أي وقت. ومع أن أزمة صافر ظلت تحضر إعلامياً وسياسياً من وقت إلى آخر على مدى الأعوام الأربعة السابقة، فإن إيجاد حل للمشكلة اصطدم بإعاقات عديدة تتحمّلها الأطراف التي تدير ملف “صافر”، فإلى جانب استمرار النزاع بين فرقاء الحرب على السلطة القانونية عليها، والحقّ في الاستفادة من عائدات بيع النفط، فإن الخطّة الأممية الإنقاذية، سواء بآليتها أو مراحلها، شكّلت، هي الأخرى، سبباً آخر لإعاقة إنقاذ “صافر”، بحيث حوّلتها إلى قضية للاستثمار.
على بعد 60 كيلومتراً، شمال مدينة الحديدة، ترسو الناقلة صافر قبالة السواحل اليمنية. والناقلة التي يعود عمرها إلى ما يقارب خمسة عقود، تم تحويلها في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم إلى خزّان عائم لتخزين النفط وتصديره من الحقول الداخلية في مدينة مأرب. واحتفظت المؤسّسة اليمنية للنفط والغاز، التابعة للدولة اليمنية حينها، بوظيفتها جهة إشرافية تتولى عملية صيانة الخزّان، ومع توقف أعمال الصيانة في سنوات الحرب، إلى جانب غياب تقارير دقيقة تقيّم حالة الخزّان ومدى صلاحيته، فقد صعّد ذلك مخاوف حدوث احتراق أو انفجار الخزّان الذي يحوي قرابة أكثر من مليون برميل. ومع أن جماعة الحوثي، سلطة الأمر الواقع التي تسيطر على الحديدة، يفترض أن تتولّى عملية صيانة الخزّان، أو على الاقل تمكين جهاتٍ مهنيةٍ من تقييم حالته، فإنها أخضعت ملفّ صافر للمساومة مقابل انتزاع مكاسب متعدّدة.
على الصعيد السياسي، استطاعت جماعة الحوثي على مدى أعوام إدارة مفاوضاتها مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لفرض شروطها، وذلك بتحييد السلطة الشرعية من عملية إنقاذ “صافر”. وعلى الصعيد الاقتصادي، حرصت جماعة الحوثي على ضمان احتكارها عملية بيع النفط المخزّن الذي تقدّر قيمته بـ80 مليون دولار، واستفادتها من العائدات مقابل حرمان السلطة الشرعية. واستندت جماعة الحوثي في تأكيد أحقيتها إلى منطق القوة والسلطة المسيطرة على الأرض، التي تفرض شروطها، إلى جانب عدم وجود نصوص مرجعية أممية تكيّف أزمة الناقلة وفقها، وتخضع، بالتالي، عائدات الخزّان للاقتسام بين طرفي الحرب، ما مكّن الجماعة من التحايل على أي تسوية بهذا الخصوص، مقابل مساومة المجتمع الدولي وتحويل خزّان صافر لورقة للابتزاز، إلى جانب تشديد إجراءاتها وتقييد عملية الرقابة على الخزّان، واستطاعت، في النهاية، فرض نفسها طرفا محليا وحيدا لإدارة أزمة “صافر”، أسفر عن توقيعها، مع الجانب الأممي، في مارس/ آذار 2022، اتفاقية تسهيل عملية إنقاذ صافر، وهو ما يعني قيامها بالدورين السيادي والقانوني، كسلطة أمر واقع، ومن ثم امتيازات متعدّدة، وإن ظلّ الشق المتمثل ببيع النفط مشكلة عالقة بين فرقاء الصراع.
تشكّل إدارة الأمم المتحدة لملف “صافر” مثالا حيويا ونموذجيا على اختلالات أدائها الوظيفي، وبيروقراطيتها، إلى جانب القدرة على استدرار دعم المانحين، وهو ما ينعكس على مجمل أدائها عموما، من الملف السياسي إلى الإنساني والإغاثي. وإذا كانت حالة الحرب وغياب سلطة وطنية موحّدة قد جعلت اليمن يخضع لوصاية القوى الدولية والمتدخّلين، فإن الأمم المتحدة أصبحت المظلّة الرسمية لإدارة هذا التدخّل، بحيث تحوّلت من هيئة محايدة تدير الشقّ الإنساني والتفاوضي بين فرقاء الحرب إلى سلطةٍ تنفيذيةٍ مخوّلة بعملية إنقاذ “صافر”، ومن ثم الطرف الثاني مقابل جماعة الحوثي. بيد أن إدارتها الملف نقلتها من متدخّل يعيق الكارثة إلى طرف معرقل وجزء من التعقيد لا الحل. فعلى الرغم من أن أزمة “صافر” أصبحت محور تقاريرها الإعلامية الدورية منذ عام 2020، بما في ذلك شمولها بالتقارير التي تتناول تطوّرات الحرب، ظلت الأمم المتحدة تتفادى ايجاد حلول عاجلة لإنقاذ الخزّان، في مقابل مأسسة أزمة “صافر”، سواء بإلحاق جهاز وظيفي في عملية الإنقاذ، ما يعني نفقاتٍ مالية تشغيلية مضافة إلى نفقاتها في اليمن، أو بتحويلها إلى ملفّ مستقل عن تداعيات انهيار الدولة اليمنية. بيد أنها لم تكن نقطة الاختلال الوحيدة في إدارة الأمم المتحدة، إذ إن تحديدها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي جهة مسؤولة عن عملية الإنقاذ، يكشف عن حجم اللامبالاة واللامسؤولية في إدارة ملف صافر، كونها، في المقام الأول، جهة إنسانية، ومن ثم ليست متخصّصة بالكوارث النفطية، كما أن تركيز الأمم المتحدة على الجانب التمويلي لتنفيذ خطتها الإنقاذية، على حساب أي شيء آخر، يقوّض ادّعاءاتها الإنسانية والأخلاقية التي رافقت تسويقها كارثة الناقلة كتهديد عالمي. وإذا كان تضاؤل اهتمام المجتمع الدولي بالحرب في اليمن، جرّاء اندلاع الحرب في السودان، وارتداداتها الإنسانية والسياسية في المنطقة، قد أثر على مستوى التدخّلات الدولية في الملفّ اليمني، فإن الأمم المتحدة ظلت تراهن على الاستمرار في تدويل أزمة صافر وبقائها تهديدا دائما، من دون أن تترتّب عليه، في المقابل، خطوات عملية وعاجلة تقدر أبعاد الكارثة.
سوّقت الأمم المتحدة خطتها الأممية لإنقاذ الناقلة “صافر” بكونها احترافية وعاجلة، ومن ثم تضمن تلافي كارثة التسرّب النفطي، والتهديدات المترتبة عليها. بيد أن هذه الخطّة لا تعكس مستوى التحدّيات، ومن ثم تقدّر تأثير عامل الزمن على الناقلة، إذ تقوم عملية الإنقاذ على مرحلتين. الأولى: تشغيل ناقلة بديلة لتخزين النفط المنقول من “صافر” 18 شهراً. الثانية: التعامل مع الحالة الحرجة لخزّان صافر عن طريق نقل النفط إلى سفينة مؤقتة آمنة أربعة اشهر، بيد أن الخطّة الأممية الإنقاذية، وإن تمت مرحلتها لأسبابٍ لم تكشف عنها الأمم المتحدة، إلا أنه لم يتم تزمينها بفترة محدّدة، بحيث تسرّع عملية إنقاذ “صافر”، خصوصا بعد تقارير عن دخول الماء إلى غرفة المحرّك. في المقابل، حدّدت الأمم المتحدة ميزانية عملية الإنقاذ، المرحلة الأولى بـ80 مليون دولار، وزعمت، في حملة التبرّعات في يونيو/ حزيران 2022، أنها لم تجمع ثلثي المبلغ، بيد أنها أعلنت، في مطلع العام الحالي، أن المرحلة الأولى تتطلب توفير 129 مليون دولار، ثم أعلنت الميزانية التقديرية 140 مليون دولار، وأنها، بعد حملة التبرّعات الأخيرة في مطلع مارس/ آذار الماضي، جمعت ما يقارب 99 مليون دولار. وقدّرت الفجوة المالية بـ29 مليون دولار. وبرّرت الأمم المتحدة تضاعف نفقة المرحلة الأولى من إنقاذ “صافر” بارتفاع تكاليف التعاقد مع سفينة بديلة لها، وتأثر خط الإمدادات بسبب الأوضاع الاقتصادية المترتبة على الحرب الروسية الأوكرانية، فيما تجاهلت مسؤوليتها جرّاء مماطلتها وتأجيل إنقاذ “صافر” من عام إلى آخر. وإذا كان غياب جهة رقابية محايدة تشرف على خطّتها الإنقاذية، واحتكارها العملية، قد جعل الأمم المتحدة تدير ملف “صافر” وفق أولوياتها، فإن تغير النفقة المالية المرصودة يكشف انتهازيتها ولامسؤوليتها، بما في ذلك فسادها، وهو ما يميز طرق إدارتها وتوزيعها أموال المانحين، كما أن سيطرة الجانب الاستشاري، وكذلك القانوني، على ميزانية النفقة المرصودة في المرحلة الأولى، سواء اعتمدت على مقاولين خارجيين في إنقاذ “صافر”، أو وسطاء متعدّدين، إلى جانب هيئاتها، فإن إدارة الأزمة بالنسبة للأمم المتحدة طغت على أي اعتبارات أخرى.
تأخذ أزمة الناقلة اليمنية صافر أبعادها الخطيرة والمتعدّدة، ليس فقط من كونها مصدر تهديد بيئي وملاحي عالمي، في بلدٍ محترب وبلا سلطة، بل من مستويات التوظيف والإدارة التي خضعت لها سنوات. ومع أن الأمم المتحدة أعلنت بدء المرحلة الأولى من خطّتها الإنقاذية، بعد إبحار الناقلة البديلة لصافر، “نوتيكا”، فإنها ربطت استكمال المرحلة الأولى بسد الثغرة التمويلية، والتي قد تتغيّر بحسب تقديراتها. وإذا كانت هذه التعقيدات والمماطلة قد شابت جزءا من تنفيذ المرحلة الأولى من الخطة الأممية، فإن البدء بالمرحلة الثانية، ناهيك عن توفير نفقاتها، ومن ثم طي أزمة “صافر” قد تعني الاستمرار في سياسة صناعة الأزمة وتسويقها، ومن ثم استثمار الكارثة لأجل غير معلوم.