عواصف اقتصادية وجيوسياسية تهدد «هيمنة» الدولار
«تآكل» مستمر لحصة العملة الأمريكية في الاحتياطات العالمية
القاهرة – عدن اوبزيرفر
تُعيد جملة من العوامل المتزامنة إلى الواجهة، الجدل القديم الجديد بشأن «مستقبل هيمنة العملة الأمريكية» على التعاملات التجارية والاقتصادية حول العالم، الجدل الذي يرتبط بصعود قوة مُهددة لمكانة الولايات المتحدة، ونظامها العالمي أحادي القطبية.
اكتسب الدولار مكانته بعد الحرب العالمية الأولى، حينما أصبح رقماً فاعلاً، واحتياطياً نقدياً رئيساً، ففي عام 1944، وقبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، حلّ «الأخضر الأمريكي» محل الجنيه الإسترليني في صدارة عملات الاحتياطات النقدية، بناءً على مقررات اتفاقية «بريتون وودز» في ذات العام.
واحتفظ الدولار منذ ذلك الحين بمكانته كأكثر العملات وأوسعها استخداماً حول العالم، مهيمناً بذلك على الاحتياطات النقدية للدول، ورمزاً لنفوذ وسيطرة واشنطن.
في عام 1999 (إبّان إصدار «اليورو») كانت حصة الدولار تصل لنحو 71 % من حجم الاحتياطات النقدية العالمية، فيما شهدت تلك الحصة تآكلاً تدريجياً؛ لأسباب مختلفة، منها: التوظيف السياسي من جانب الولايات المتحدة لعملتها، لتنحسر الحصة في عام 2019 إلى حوالي 61.5 %.
وطبقاً لأحدث تقارير صندوق النقد الدولي، بلغت حصة الدولار في 2022 من الاحتياطيات النقدية العالمية 58.36 %، معدل يمثل أدنى مستوى له منذ عام 1995.
وفي ضوء عواصف اقتصادية، وجيوسياسية، غير مسبوقة، ومجموعة تطورات وتحولات يشهدها عالم اليوم، إلى جانب تصاعد حدّة الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، واتجاه دول «غير صديقة» للولايات المتحدة نحو تخفيض اعتمادها على العملة الأمريكية، فإن جملة تحديات تلف مصير «الهيمنة الدولارية» التي عرفها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وإلى أي مدى يُمكن أن تعصف تلك التحديات بسيطرة «كبير العملات»؟ وهل يُمكن أن تُسهم التحركات الصينية، واتفاقات التبادل الثنائي بين أكثر من دولة بالعملات الوطنية، في كسر هيمنة الدولار أو على أقل تقدير إضعافها؟ وما مدى ارتباط ذلك بالمتغيرات والتحولات العميقة التي يشهدها النظام العالمي؟
«البيان» استطلعت آراء خبراء ومحللين، أبدوا تقديرات مختلفة، بناءً على معطيات واسعة، حول مستقبل العملة الأمريكية، فيما رصدوا عدد من الفرص والتحديات التي تُواجه الدولار، الذي لا يزال، على الصعيد العملي، العملة المسيطرة، رغم تآكل نصيبه من الاحتياطات العالمية.
وفي وقت يحذر مختصون من «انهيار دولاري»، ربما على المدى القصير أو في غضون عقدين، حيث يصبح الدولار الأمريكية ليس العملة الأساسية ضمن الاحتياطات العالمية، وهي التوقعات التي يتبناها المستثمر ورجل الأعمال الأمريكي، ستانلي دراكينميلر.
قضية معقدة
يُنظر إلى قضية «مستقبل هيمنة الدولار» على اعتبار أنها «قضية معقدة للغاية»، وفق تعبير بروفيسور العلاقات الدولية في كلية «هاميلتون»، آلان كفروني، الذي صرح لـ«البيان»: «لاسيما بالنظر لارتباطاتها بالتحولات الجيوسياسية، والنظام العالمي القائم».
وطبقاً لكفروني فإن «دور البترودولار يتضاءل بشكل واضح، كما يتضح من تداول فكرة تسعير النفط باليوان، وإعلان بعض الدول انفتاحها على هذا الأمر».
مشدداً كفروني على أن ثمة عوامل عديدة تشجع على هذا التحول، أهمها: «الاستخدام المتزايد للعقوبات أحادية الجانب من قبل الولايات المتحدة، التي أضرت باقتصادات، ليس فقط الدول المستهدفة، ولكن أيضاً الحلفاء والشركاء التجاريين، مثل: دول الاتحاد الأوروبي (..). كما هو الحال بالنسبة للعقوبات التي فرضت على روسيا، وإيران، وفنزويلا، وأفغانستان».
فيما يلفت كفروني إلى أنه «لا يوجد منافس في الوقت الحالي لأسبقية الدولار»، إذ لا تزال 58.36 % من احتياطات النقد الأجنبي للبنوك المركزية حول العالم، محتفظاً بها بالدولار الأمريكي.
كما أن أقل من ٣% من التجارة مقوّمة باليوان الصيني، التي يبدو أنها نفسها ليست مستعدة بعد لتخفيف القيود على رأس المال. ومن ثم، يستبعد كفروني انتهاءً قريباً لهيمنة العملة الأمريكية عالمياً، رغم محاولات تقليص الاعتماد عليه بشكل أو بآخر.
أما على الجانب الآخر، يتبنى بعض المحللين الرأي القائل إن انهيار هيمنة العملة الأمريكية عالمياً، ربما يتسارع بشكل أوسع في الفترات المقبلة، حال تشاركت دول أوروبية في مساعي تقليص الاعتماد على الدولار في تعاملاتها.
ومن ثمّ تُواجه العملة الأمريكية بمزيدٍ من التآكل وتتناقص حصتها من الاحتياطيات العالمية بشكل أكبر، وهو الرأي الذي يتبناه مدير مركز «جيواستراتيجيك أناليسيز» في الولايات المتحدة، بيتر هوسي، الذي ألمح لـ«البيان» إلى موقف دول أوروبية تنساق إلى هذا الاتجاه، المرتبط بالتخلي عن الدولار خارج الحدود الإقليمية.
ويشار في ذلك، على سبيل الذكر لا الحصر، إلى تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لدى رحلة عودته من زيارة الصين أخيراً، عندما قال إنه يتعين على أوروبا تقليل الاعتماد على العملة الأمريكية في تعاملاتها خارج الحدود الإقليمية، ضمن دعوته «للتحرر الأوروبي» من التبعية لواشنطن، وهي تصريحات أثارت جدلاً واسعاً، بينما أضيفت إلى جملة شواهد تؤكد المخاطر المُحيطة بالدولار.
نقاط القوة والضعف
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي السعودي، سليمان العسّاف، لـ«البيان»، إنه بعد اتفاق «بريتون وودز»، أصبح الدولار الأمريكي المرجع الأساسي.
ففي عقد السبعينات، فكت الولايات المتحدة ارتباط الدولار بالذهب، على اعتبار أن الدولار هو الغطاء العالمي البديل، فأصبح الاحتياطي الأساسي بالنسبة لدول العالم، إلا أن نصيب العملة الأمريكية الآن من الاحتياطات العالمية تراجع بشكل غير مسبوق وصولاً إلى أقل من 59 %.
ويُحلل العسّاف نقاط القوة والضعف التي يواجهها الدولار، ويشدد على أن العملة الأمريكية «لا تزال المهيمنة، والأسرع انتشاراً، علاوة على «البترودولار» (تسعير البترول بالدولار)، أبرز عوامل قوة الدولار وهيمنته على الاقتصاد العالمي».
لكن على الجانب الآخر، فإن سعي عدد من الدول للتبادل التجاري بالعملات المحلية (آخرها اتفاق الصين والبرازيل على سبيل المثال)، ومساعي تكتلات اقتصادية، مثل: «بريكس»؛ لإنشاء عملة موحدة، ومثل: استعداد الأرجنتين والبرازيل لإطلاق عملة مشتركة، كلها عوامل رئيسة تُهدد الهيمنة الدولارية الأمريكية.
ويضيف العسّاف: «هناك محاولات لزعزعة «البترودولار» حول العالم، فضلاً عن كثير المحاولات الدولية من أجل تقليل الاعتماد على الدولار».
ويعتقد الخبير الاقتصادي السعودي بأن لهيمنة الدولار الأمريكي مساوئ على الاقتصاد العالمي، مستدلاً بجملة التطورات الأخيرة مع اتباع الفيدرالي الأمريكي سياسة رفع سعر الفائدة، بما تسبب في سحب كثير من الأموال من اقتصادات الدول الأخرى.
وتسبب في اختلالات اقتصادية، وضعف عملات تلك الدول، لاسيما البلدان النامية، موضحاً في الوقت نفسه، أن الولايات المتحدة تستخدم الدولار «أداةً» للهيمنة، وعندما تعاقب أي دولة، فإن بمقدورها منعها من نظام «سويفت»، الذي تسيطر عليه واشنطن عملياً (..).
تراجع حصة الدولار
الباحث الاقتصادي خبير الأنظمة المالية، الدكتور زيد البرزنجي، يشير في تصريحات لـ«البيان» إلى أن «أسباب تراجع حصة الدولار، كعملة احتياطي نقدي عالمية، رغم كونه المهمين الأول، هي أمر محل نظر ودراسة واسعة، لكن هناك مجموعة من الأسباب الواضحة، من بينها:
الجهود الصينية الروسية في هذا السياق، لجهة عدم الرغبة في الاعتماد على الدولار، في ضوء تأزّم العلاقة مع الولايات المتحدة، إضافة إلى أسباب أخرى مرتبطة بما تشهده اقتصادات الدول النامية بشكل خاص من مشكلات اقتصادية تحتاج معها لاستنزاف ما لديها من احتياطيات نقدية أو إعادة توزيع تلك الاحتياطيات إلى أصول إنتاجية».
وفيما يخص اتفاقات التبادل بالعملات المحلية بين بعض الدول، فإنه يعتقد بأن ثمة عوامل مرتبطة بالتعاملات المالية بين الدول ووضع الاقتصادات العالمية والتطورات الجيوسياسية يتحدد بناءً عليها مدى إمكانية تهديد دور الدولار العالمي.
موضحاً أن اتفاقات التعامل الثنائي بين بعض الدول بالعملات الوطنية في التبادلات التجارية يُمكن أن تؤثر على الدولار حال توافر عدد من العوامل مثل استقرار تلك التعاملات والظروف المحيطة بها وما تمثله تلك الاقتصادات من قوة على الصعيد الدولي.
ويستشهد باتفاقات التبادل التجاري مع الصين باليوان على سبيل المثال، مبيّناً أن «كل اتفاقية يمكن أن تحدث تغييراً في الساحة إذا سارت الأمور بشكل متوافق، مع استمرار نمو الاقتصاد الصيني بصورة جيدة، ودون وجود نزاعات أو توترات إقليمية تعيق ذلك وتؤثر على العلاقات الصينية، فضلاً عن مدى قوة تلك الاتفاقات..
إذا توافرت تلك العوامل فإنه يمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة دور اليوان في العلاقات المالية العالمية وثقة المتعاملين به».
وفيما يشير إلى تلك العوامل «من شأنها أن تؤدي لتغيير دور الدولار العالمي وتغيير نظرة الدول له وكيفية التعامل معه»، فإنه يلفت في السياق نفسه إلى أن مدى محافظة الدولار على هيمنته يرتبط بمدى قوة الاقتصاد الأمريكي ومواصلة نموه، مشدداً على أن الاقتصاد الأمريكي لا يزال هو الأقوى عالمياً والأكثر حيوية وإنتاجية.
الاتفاقات الثنائية
بينما يختلف مع البرزنجي في هذا التوجه، عدد من المراقبين، ممن يقللون من إمكانية تأثير «الاتفاقات الثنائية»، للتعامل بالعملات المحلية، على قوة ومتانة الدولار.
لاسيما وأن تلك الدول عادة ما تضطر إلى تبديل العملات للدولار؛ من أجل التعامل مع دولة أخرى ثالثة (في ضوء سيطرة الدولار على المعاملات الدولية)، الرأي الذي يتبناه الباحث في مؤسسة «نيو أمريكا»، باراك بارفي، الذي لا يعتقد بأن تلك الاتفاقات من شأنها أن تشكل تهديداً للعملة الأمريكية.
إنما على الجانب الآخر، ربما يكمن التهديد الأكبر حال كانت تلك الاتفاقات على صعيد تكتلات أو مجموعات إقليمية، من خلال تنسيق جماعي ضد الدولار من شأنه زعزعة استقرار العملة الأمريكية وهيمنتها.
لكن ذلك الأمر يعتقد مراقبون بأنه «ليس بالسهولة المتوقعة، على اعتبار أن الدولار هو تعبير عن هيمنة الولايات المتحدة والنظام العالمي أحادي القطب.
وأي تغيير في لتلك الهيمنة الدولارية يعني تغييراً في النظام العالمي ككل، والطريق إلى إحداث ذلك التغيير يتطلب مجموعة من التحولات الجذرية في العلاقات الدولية وبما تتطلبه تلك التحولات من محطات ساخنة شديدة الخطورة ربما تصل حد الحرب العالمية.
تراجع أم انتهاء الهيمنة؟
وفي ضوء المعطيات الراهنة، يعتقد الخبير الاقتصادي الكويتي، محمد الرمضان، بأن «هيمنة الدولار سوف تظل مستمرة، إنما ما قد يحدث هو أنها سوف تتراجع مع استخدام العملة الأمريكية كسلاح سياسي (العقوبات الدولية، مثل: روسيا على سبيل المثال).
وهذه هي الأزمة التي تدفع الدول غير الصديقة للولايات المتحدة – وهي كثيرة – تتبنى سياسات مختلفة لتقليل هيمنة الدولار وليس انتهاء الهيمنة، على أساس أن البديل غير موجود، بما في ذلك اليوان الذي لا يزال في وضع مختلف تماماً عن الدولار».
ويلفت إلى أن تلك الدول تسعى للتخلص من الدولار كعملة أساسية، من خلال القيام بالتبادلات الثنائية، بعيداً عن الدولار، مثل: الصين وروسيا.
بينما يتفق الرمضان مع هوسي في الرأي بخصوص أن المحك الرئيس يتمثل في الدول الصديقة للولايات المتحدة، التي يعد الدولار الملاذ الآمن لها، والعملة الرئيسة المهيمنة على النشاط الاقتصادي، إذا لجأت تلك الدول للتخلص من الدولار كعملة أساسية، وهو أمر بعيد عن الحدوث، ويصعب توقع متى يمكن أن يحدث، على حد قوله.
ولا يعتقد الرمضان بأن ثمة بدائل جاهزة يمكن أن تحل محل الدولار، كما يشير في الوقت نفسه إلى حجم التبادل التجاري الكبير بين الصين والولايات المتحدة، وبالتالي من الصعوبة بمكان أن تتخلص الصين من الدولار (عملية فك الارتباط).البيان