هل تحقق العقوبات الاقتصادية على روسيا النتائج المرجوة؟
لطالما شكلت العقوبات السلاح المفضل لدى القادة السياسيين الراغبين في كبح سلوك دولة خسيسة والمشكلة هي أنها قلما تأتي بنتيجة
كريس بلاكْهَيرْست
بحلول وقتنا الحالي، كان يفترض أن تكون روسيا منهارة اقتصادياً، إلى حد يجعلها ترزح للضغوط الشعبية وتتفاوض على إيجاد تسوية مع أوكرانيا.
لكن ذلك، ببساطة، لم يحصل، بل على العكس، تواصل عجلة الاقتصاد دورانها في البلاد، حيث حققت الكثير منذ أن أصدر فلاديمير بوتين أمره باجتياح أوكرانيا. ومع أن الروبل هبط في البداية، لكنه سرعان ما استعاد عافيته، كما ونجحت روسيا في الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط والغاز الذي تسبب فيه العدوان الذي شنته. ومع أن الواردات [الروسية] تراجعت لبعض الوقت، لكنها عادت اليوم إلى مستويات ما قبل الحرب.
واجهت روسيا عراقيل عسكرية وخسرت أعداداً كبيرة من الجنود، لكن المواطنين الروس العاديين، ما لم يكونوا متأثرين مباشرة [بتبعات الحرب]، فإنهم يعيشون اليوم حياة لا تكاد تختلف عما كانت عليه في السابق. وبفضل ذلك، ومع قمع بوتين الاعتراضات الداخلية، لم تحصل [في البلاد] أي مطالبات حاشدة بالانسحاب [من أوكرانيا]. وما دامت روسيا قادرة على تأمين الإمدادات العسكرية، ستكون قادرة على مواصلة القتال.
لكن الحكومة الأميركية كانت تتوقع، في مارس (آذار) 2022، أن يسجل الاقتصاد [الروسي] عما قريب “انكماشاً بنسبة تصل إلى 15 في المئة”، وأن يحرم الروس كلياً من حياة الرفاهية التي حظوا بها على امتداد العقدين الماضيين، وأن يتسبب جلاء أكثر من 400 شركة متعددة الجنسيات عن البلاد، وأكثرها يعمل في تصنيع المنتجات الاستهلاكية والضيافة، بحرمان الروس من سلع ومنتجات فاخرة اعتادوا أن يجدوها في متناول اليد.
كان الهدف من فرض العقوبات تركيع روسيا، لكن هذه السياسة لم تنجح – أقله بالمستوى الذي كان منشوداً. وتخضع البلاد منذ عام 2014، تاريخ هجومها على شبه جزيرة القرم، لـ10 حزم عقوبات، وأضيفت إليها في نهاية الأسبوع الماضي حزمة حادية عشرة، خلال قمة مجموعة الدول الصناعية السبع.
ويشير موقع “كاستيللوم دوت أي آي” Castellum.AI الذي يرصد العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، إلى أنه قبل انعقاد قمة مجموعة الدول السبع في اليابان، صدرت 12616 عقوبة في حق البلاد بعد الاجتياح، لتضاف إلى 2695 عقوبة فرضت على روسيا منذ عام 2014، من بينها نحو 10 آلاف عقوبة تطاول أفراداً. أضف إلى ذلك تقييداً لصادرات الغاز والفحم والنفط الروسي، والسفر، وبيع المنتجات الفاخرة، والاستفادة من خدمات مهنية محترفة، والنفاذ إلى أموال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والحصول على سندات دين سيادية، واستخدام المصارف الروسية لنظام المدفوعات الدولي “سويفت” Swift، ناهيك بتجميد أصول روسية تناهز قيمتها 300 مليار دولار أميركي.
خلال قمة مجموعة الدول السبع، تمسك رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك بخطابه القاسي، مؤكداً رغبته إجبار روسيا على “دفع ثمن” حربها على أوكرانيا. وستضاف إلى قائمة الحظر واردات الألماس والنحاس والألمنيوم والنيكل الروسية. وسيوضع على القائمة السوداء 300 كيان روسي إضافي يشمل أفراداً وسفناً وطائرات.
وصرح قادة مجموعة الدول السبع بالقول، “نقوم بفرض مزيد من العقوبات والإجراءات لزيادة الكلفة المفروضة على روسيا وعلى كل من يدعم جهودها الحربية”.
لطالما شكلت العقوبات السلاح المفضل لدى القادة السياسيين الراغبين في كبح سلوك دولة خسيسة، كونها أفضل بكثير من مشهد الجنود العائدين إلى الوطن في أكفان.
لكن المشكلة هي أن العقوبات قلما تعطي نتيجة. وخير مثال يحال عليه باستمرار حول الموضوع هو حظر الأمم المتحدة العلاقات التجارية مع جنوب أفريقيا خلال مرحلة الفصل العنصري (الأبارتهايد). فآنذاك، لم تحقق عزلة البلاد الاقتصادية التي استمرت لسنوات، أي فرق، ولم تظهر أي نتيجة إلا بعد صدور مطالبات داخلية بوضع حد للعذاب ولسفك الدماء.
في حالة جنوب أفريقيا، كان الحظر مفروضاً من الأمم المتحدة، لكن في روسيا، نفذ الحظر كل من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، وسويسرا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا واليابان، أما منظمة الأمم المتحدة فلم تفعل، شأنها شأن ما تبقى من العالم، بما يشمل “الجنوب العالمي” الذي يضم أميركا الجنوبية، وأفريقيا، والشرق الأوسط، والهند، وباكستان، والصين، وباقي آسيا.
بالنتيجة، لا يزال نصف العالم منفتحاً على العلاقات التجارية مع روسيا، بالتالي استطاع بوتين أن يبيع النفط والغاز إلى الصين والهند. أما أعضاء حلقة المقربين منه، أي الأوليغارشيين الذين طالتهم الإجراءات، فتركوا لندن ونيويورك وباريس، ونقلوا مقر إقامتهم إلى دبي وأمثالها، حيث يواصلون عيش حياة من الرغد والثراء. والأرجح أن تكون الأهمية المعطاة لتأثير الأوليغارشيين في بوتين مبالغة – وحتى لو أنهم امتعضوا مما أصابهم، لم تلق شكاواهم أي آذان صاغية.
بعد رحيل الشركات الأجنبية عن البلاد، استحوذ عليها رواد مشاريع محليون، كان قسم كبير منهم من موظفيها السابقين، في حين أسهمت دول أخرى، لم تفرض عقوبات على روسيا، في إدخال منتجاتها الخاصة لتحل مكان تلك التي أصبحت محظورة.
في الوقت نفسه ازدهر الاستيراد “الموازي” – وهو البيع غير المشروع لمنتجات غربية إلى روسيا، عن طريق دولة ثالثة. ومن بين الدول الناشطة في هذا المجال أرمينيا وكازاخستان وصربيا وغيرها. وفي هذا السياق، يشار إلى أن كازاخستان التي لم تصدر أي غسالات إلى روسيا عام 2021، ستصدر 100 ألف غسالة إلى البلاد خلال العام الحالي. أما صربيا التي كانت تصدر هواتف جوالة بقيمة لا تزيد على 10 آلاف دولار إلى روسيا، فتبلغ قيمة المنتجات التي تشحنها اليوم عشرات ملايين الدولارات.
ومع أن العقوبات لم تأت بالنتائج المرجوة، فهي تترك وقعاً نسبياً، ومن المؤكد أنها تشكل عائقاً. فمع الوقت، سيفتقد الناس الشركات الغربية، كما وأن الأوليغارشيين ما عادوا يملكون الحرية المطلقة التي كانوا يحظون بها في ما مضى.
مع أن العقوبات لا توفر علاجاً سحرياً، لكنها قد تمنع بوتين من توسيع نطاق حملته العسكرية. فهو عالق في مكانه، ويسود الظن بأنه سيصدر في النهاية أمراً بإيقاف الحرب، لكن هذا الاحتمال لا يزال بعيداً، ولا شك في أن عقوبات جديدة ستفرض قبل الوصول إلى هذه النقطة.
كريس بلاكهيرست كاتب ومعلق حصد جوائز، ورئيس تحرير اندبندنت سابقاً. وهو مؤلف كتاب “أكبر صراف آلى في العالم” The World’s Biggest Cash Machine المتوقع صدوره في وقت لاحق من السنة الحالية.
© The Independent