كيف رسخت إيران وجودها في سوريا منذ بدء الحرب؟
عملت طهران على توظيف إستراتيجية سياسية واقتصادية وعسكرية متعددة الأبعاد في دمشق منذ اندلاع الحرب الأهلية
هدى رؤوف
تمر سوريا بمتغيرين متزامنين، الأول عودتها للجامعة العربية بعد 12 عاماً من الغياب، بما تعنيه رمزية تلك الخطوة من فتح آفاق للتطبيع العربي معها، والثاني محادثات تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا.
ويطرح المتغيران تساؤلاً في شأن مستقبل الوجود الإيراني في سوريا، أو بالأحرى التساؤل عما يمكن أن تتنازل عنه طهران أو تتمسك به في دمشق في ظل خروج نظام بشار الأسد من عزلته الإقليمية بعيداً من إيران.
لكن الإجابة عن تلك التساؤلات تتطلب الوقوف على كيف استثمرت إيران وجودها خلال الحرب السورية الممتدة منذ 12 عاماً، ومن ثم إلى أي مدى يمكن أن تكون عقبة أمام مرحلة جديدة لسوريا؟
عملت إيران على توظيف إستراتيجية سياسية واقتصادية وعسكرية متعددة الأبعاد في سوريا منذ اندلاع الحرب الأهلية، فقد تجلى الدعم السياسي والدبلوماسي قبل وبعد الحرب، فقبل الحرب قدمت طهران الدعم لبرامج الأسلحة الكيمياوية السورية، بما في ذلك دعم العلماء الإيرانيين وتوريد المعدات والكيماويات والتدريب الفني، فدمشق أهم شريك إستراتيجي لطهران، إذ احتلت سوريا مكانة محورية في مشروع إيران نحو الهيمنة الإقليمية، فعبرها تضمن طهران استمرار تأثيرها في محور سوريا – لبنان – العراق تحت قيادتها كقوة إقليمية كبرى مؤثرة في الشرق الأوسط.
وكانت بدايات الدعم الدبلوماسي الإيراني بعد الحرب السورية مع تغيير موقف إيران من الحرب، فبينما اعتبرت طهران أن الاحتجاجات العربية التي اندلعت في بعض الدول عام 2011 ضمن حركة الصحوة الإسلامية، وأنها امتداد للثورة الإسلامية الإيرانية، واتبعت موقفاً يدعم انهيار الأنظمة السنيّة، تغير موقفها حينما انتقلت الاحتجاجات إلى سوريا واعتبرتها تحريضاً من الغرب الذي ينوي تقسيم الإسلام.
لكن في بداية الأزمة حرصت طهران على تخفيف الانتقادات الموجهة إليها جراء دعمها نظام بشار الأسد، فوجهت دعوات إلى بدء حوار بين المعارضة والنظام، ثم رحبت بالـ “فيتو” الصيني والروسي في مجلس الأمن الخاص بإدانة النظام السوري واستصدار قرار بفرض عقوبات عليه عام 2012، فضلاً عن تنظيم إيران مؤتمرات عام 2012 بعنوان “لا للعنف ونعم للديمقراطية”، ولم يدعمه سوى روسيا والصين.
كذلك دانت طهران المؤتمر الذي انعقد في قطر في العام ذاته لضمه كل القوى المعارضة لبشار الأسد، واشتركت في “مفاوضات أستانا” مع روسيا وتركيا منذ عام 2016، وقد أدى الوجود وتداخل المصالح بين الأطراف المتدخلة في الحرب السورية مثل روسيا وإيران وتركيا إلى تغيير تركيا موقفها من بقاء نظام الأسد، إذ إنه خلال المراحل الأولى من الحرب السورية اعتبرت تركيا أن الصراع فرصة لتوسيع نفوذها السياسي في المنطقة، فاتبعت إستراتيجية تقوم على توفير التدريب والعتاد والدعم اللوجيستي لمختلف التنظيمات التي تحارب ضد النظام السوري، غير أن المحادثات الثلاثية أسهمت في تغيير السياسة التركية في سوريا التي تحولت من دعم للتنظيمات المسلحة في سوريا إلى التعاون مع روسيا وإيران.
وتعمل إيران حثيثاً لتحقيق كل أهدافها في سوريا وتأكيد أن العملية السياسية يجب أن تنتهي بحكومة سورية تسمح لها باستخدام الأراضي السورية لدعم وتسليح “حزب الله” ووكلائها الإقليميين.
أما على المستوى العسكري فاستخدمت إيران الأداة العسكرية داخل دول الصراعات في مسارين مرتبطين ببعضهما بعضاً، الأول الإسهام في إنشاء ميليشيات عسكرية مؤيدة لها، والآخر التدخل العسكري المباشر بواسطة قوات فيلق القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني.
وساعدت العمليات الإيرانية في تعزيز قبضة نظام السوري جغرافياً وسط وجنوب البلاد، كما ضاعفت عمليات النقل الجوي عندما سيطرت الجماعات التي تحارب ضد النظام السوري على الطرق البرية التي كانت تستخدم لشحن المعدات المقدمة إلى النظام السوري من قبل إيران، وتشمل النفط والمساعدات المالية والدعم المخابراتي والنقل الجوي للمعدات العسكرية، بما في ذلك الذخيرة والأسلحة الصغيرة والثقيلة والمدفعية، والمتخصصون الفنيون والضباط لتدريب وقيادة القوات السورية.
كما امتد الدعم العسكري للنظام السوري عبر الوجود الإيراني الميداني، فجرى تنفيذ عمليات عسكرية من خلال وحدات فيلق القدس الموجودة ميدانياً في سوريا، وتدخلت قوات الحرس الثوري ميدانياً بالعمليات البرية التي ساعدت قوات الأسد في تنظيم نفسها، كما قتل قادة رفيعو المستوى من الحرس الثوري داخل سوريا، مثل الجنرال حسين حمداني الذي توفي منتصف عام 2015.
أما عن تأسيس ميليشيات عسكرية فأسست إيران عبر فيلق القدس ميليشيات الدفاع الوطني، وهي على غرار “قوة الباسيج” الإيرانية بهدف مساعدة الجيش السوري، وكذلك تجنيد المقاتلين الشيعة الإقليميين الذين ويقدر عددهم ما بين 7 آلاف من عناصر “حزب الله”، عدا عن تجنيد مقاتلين شيعة من أفغانستان وباكستان.
وتشير التقديرات إلى أن فيلق القدس يجند نحو 50 ألفاً من عناصر الميليشيات الشيعية التي تعمل داخل سوريا، فهناك كتائب “حركة النجباء”، وهي ميليشيات شيعية عراقية، و”كتائب البعث” وهي ميليشيات موالية لحزب البعث.
وتستهدف إيران من تدريب تلك الميليشيات والمجموعات شبه المسلحة ووجودها داخل سوريا تحقيق أكثر من هدف، أولها تعزيز قوات الأسد بتوفير قوات إضافية للحرب، وثانيها ضمان استمرار وجود عسكري إيراني في سوريا في حال خسارة نظام الأسد، وقد تقدمت هذه الميليشيات شرقاً إلى النقطة التي يمكن أن تساعد فيها إيران على تشكيل ممر آمن للإمدادات من إيران إلى لبنان.
وتدرجت إيران في دعمها لنظام الأسد من تدخل قوات فيلق القدس إلى الاستعانة بميليشيات شيعية ثم اللجوء إلى التدخل السوري، وقد تراوحت المبررات الإيرانية للتدخل في سوريا، ففي البداية كان هناك إنكار لوجود أية عناصر عسكرية إيرانية في البلاد، ثم التحجج بالتدخل عبر الميليشيات الشيعية لأن هذا يخص أمن إيران، فضلاً عن استخدام الورقة الطائفية وحماية المزارات والأماكن الشيعية.
وكانت الأداة الاقتصادية أهم أدوات السياسة الإيرانية، فانتعشت الاستثمارات الإيرانية في سوريا حتى بلغت في نهاية عام 2008 نحو 3 مليارات دولار، وانخرطت إيران في المشاريع الزراعية والصناعية في سوريا، بما في ذلك مصانع للسيارات وبناء مصفاة للنفط في حماة وتصدير الغاز الطبيعي الإيراني إلى سوريا عبر تركيا.
وبعد الحرب السورية ضاعفت إيران دعمها الاقتصادي، ففي يونيو (حزيران) 2015 صرح مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستفان دي ميستورا بأن المساعدات الإيرانية لسوريا، بما فيها العسكرية والاقتصادية، وصلت إلى نحو 6 مليارات دولار في السنة.
وتشير دراسات صادرة عن الكونغرس الأميركي إلى صعوبة قياس المعونات الإيرانية المقدمة إلى سوريا بدقة، ويعود ذلك جزئياً لأنها تضم مجموعة من المساعدات الاقتصادية، فهناك عمليات لنقل النفط والسلع فضلاً عن المعونة العسكرية، وقد مددت إيران 6.6 مليار دولار في شكل ائتمانات لحكومة الأسد منذ عام 2013.
وتستقبل سوريا واردات إيرانية بما في ذلك النفط الخام والمواد الغذائية، مثل القمح والسلع المعلبة والمدخلات الزراعية والصناعية، كما وافقت على استثمارات إيرانية جديدة في قطاعات الاتصالات والزراعة والتعدين، كما تنافس الوجود الروسي على المصالح الاقتصادية في سوريا، وربما كان انشغال روسيا في الحرب مع أوكرانيا فرصة لتعزيز وجودها وروابطها داخل الاقتصاد السوري.
وفي ظل الاستثمار الإيراني في سوريا على المستوى العسكري والاقتصادي، فهل من الممكن أن تتخلى إيران عن وجودها في سوريا، ليس فقط لجانب رغبتها في جني كلف دعمها النظام منذ عام 2011، إنما لجهة الأهمية الجيوستراتيجية لسوريا في المشرق العربي، ورغبة إيران في استمرار ما تسميه محور المقاومة التي تريد لسوريا استمرار ارتباطها به.
والسؤال: هل يمكن أن تتخلى إيران عن مكاسبها وطموحاتها داخل سوريا لمصلحة العودة السورية للحاضنة العربية من جهة، وتطبيع العلاقات مع تركيا من جهة أخرى؟ الإجابة في مقالة مقبلة.انديبنديت