خواطر حول اللقاء الجنوبي
مصطفى النعمان
ترافق وهن الدولة وتفتتها وانحسار دورها مع حدوث متغيرات جذرية تحكمت بالمسارات التي خلفتها الاحتجاجات وتصاعد الغضب في كل المحافظات (رويترز)
ينعقد صباح اليوم الخميس أول لقاء جنوبي بعد تأخر طويل، ومن المهم التذكير بأن محاولات كثيرة جرت طيلة الأعوام التي تلت نشأة ما عرف بـ “الحراك الجنوبي السلمي” في 2007 لتجميع القوى الجنوبية الفاعلة ولم يكتب لها النجاح لأن الأجهزة الأمنية تعاملت مع قضية شديدة الحساسية بتفكير أمني ساذج، فكان يتم الترويج بأن التقارير الأمنية تؤكد أن الأمر لا يتعدى 10 أشخاص يمكن إما شراؤهم أو إلقاء القبض عليهم.
وتصاعدت نبرة الاحتجاجات في المحافظات الجنوبية وتحولت الدعوات من المطالب إلى تسوية الأوضاع القانونية لمن تم تسريحهم من الخدمة، خصوصاً في القطاعات العسكرية والأمنية وصرف مرتباتهم وتحولت شعارات “الحراك” إلى الحديث عن “الاحتلال الشمالي” و”استعادة الدولة” واستمرت الحكومة في صنعاء تتعامل مع القضية عن طريق الرشوة وصرف الأموال والأراضي والوعود بالمناصب.
وعلى رغم تشكل عدد من اللجان إلا أن ذلك جرى بطريقة عشوائية، لكن أشهرها كانت لجنة “باصرة – هلال” (صالح باصرة وعبدالقادر هلال) التي شرحت أصول المشكلة وعلاجها لكن شيئاً لم يحدث للتخفيف من حدة المشاعر السلبية واستمر ارتفاع معدل الغضب إلى أن بلغ مداه مع بداية الاحتجاجات الشعبية ضد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
ولم يستغل الرئيس عبدربه منصور هادي حال الإجماع الوطني والإقليمي والدولي لمساندته مفضلاً التعامل بطريقة “فرّق تسد”، فتشرذمت القوى الجنوبية وتوزعت الولاءات على أكثر من فصيل، وتشابك الوطني بالإقليمي فتعقدت الأوضاع إلى حد لم يعد معها من الممكن التعامل إلا بحلول جذرية تبتعد من أسلوب النعامة التي تضع رأسها في التراب بينما جسدها معروض أمام الأعين.
ترافق وهن الدولة وتفتتها وانحسار دورها مع حدوث متغيرات جذرية تحكمت بالمسارات التي خلفتها الاحتجاجات وتصاعد الغضب في كل المحافظات ولم تعد السلطة المركزية قادرة على مواكبة التطور السريع للأحداث، فظهر “المجلس الانتقالي الجنوبي” الممثل الأقوى داخلياً وإقليمياً وجرى تثبيت موقعه في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 بالتوقيع على “اتفاق الرياض” الذي منحه مشاركة فاعلة في تسيير أعمال الحكومة، وتم تتويج دوره الأساسي بضم رئيسه عيدروس الزبيدي عضواً في مجلس القيادة الرئاسي في السابع من أبريل (نيسان) 2022.
ومنذ نشأته بالغ المجلس الانتقالي في حجم الطموحات وأسرف في إطلاق الوعود التي ما كان من الممكن تحقيقها في ظل الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة، ولم ينتبه إلى خطورة هذا الأمر فأفقده سريعاً كثيراً من ثقة الناس بقدراته، فبدأت الانتقادات تتزايد والملاحظات تتكاثر، ولكن الأخطر كانت الازدواجية التي مارسها في الانتظام داخل مؤسسات الحكومة التي كان يطلق عليها إلى وقت قريب “حكومة الاحتلال”، وأصبح له فيها وزراء ومحافظون وقادة عسكريون وأمنيون.
سيقف المجتمعون الذين وافقوا على الدخول إلى الحوار الجنوبي أمام قضايا عدة عليهم تسويقها بأسلوب مغاير لخطابهم السابق كي يصل إلى المواطن في كل الجغرافيا الجنوبية، وعليهم ألا يتوهموا بأنهم قادرون على إنجاز مشروعهم المعلن بمعزل عن التوافق مع بقية المساحة اليمنية. وهكذا، فإن المؤمل أن يخففوا من الشعارات التي لم يعد الزمن والمحيط يسمحان بتقبلها لأن وعي المواطنين ارتفع إلى الحد الذي لن يمكنهم من تمرير خطاب سياسي واجتماعي لا يوائم الواقع.
وسيواجه المجلس الانتقالي معضلة لن يتمكن من إخفائها وإنكارها ولا يستطيع تجاوزها بخطاب غير واقعي وهي حقيقة وجود معارضين لمشروعه كما هو عليه حالياً، وهذا يوجب عليه الاقتراب منهم والتعامل العقلاني مع مخاوفهم من سيطرة لون سياسي ومناطقي واحد على التوجهات الجنوبية، كما أن على قيادة المجلس الاقتناع بأنها لا تمثل كل الجنوب وليس هذا أمراً يعيبها لأن الاختلاف وربما التناقض يحتاج تجاوزهما إلى جهود جادة للوصول إلى تحديد أهداف مشتركة بدلاً من التراشق الإعلامي.
قيادات المجلس تمارس دور صاحب الحق في تقرير مستقبل الجنوب، ولكن عليها أيضاً إدراك أن ذلك لا يعني أنها قادرة على الخروج من المنظومة السياسية الحالية في الوقت الذي تحدد وحدها، بل إنها قضية زادتها الحرب تعقيداً وصارت القوى على الأرض أكثر تشرذماً مما كانت عليه قبلها، كما أن كثيراً منها لا يستطيع البقاء في المشهد بقدراته الذاتية.
في الخلاصة، فإن اليمنيين جميعاً ينتظرون ما ستؤول إليه مداولات الحوار الجنوبي وقدرة المشاركين على الارتفاع بالحوار الداخلي إلى مستويات تشجع الآخرين على اللحاق بهم والدخول في نطاق التفاهمات التي تحترم الحق في الاختلاف وقبول التناقض طالما ظل الأمر في نطاق الكلمات.