استهداف الجنوب.. الأسوأ لم يأت بعد!
ما نشاهده من فتور في رغبة الكثير من الأطراف الاستمرار في معركة استعادة الشمال يعطي انطباعا بأن ما يجري هو تصفية لملف الشمال عبر اتفاق هش يقبل بالحوثيين كسلطة أمر واقع.
عندما اجتاح الحوثيون المحافظات الجنوبية في مارس 2015 لم يكن في حسبانهم أنهم سيخوضون معركة مختلفة لم يألفوها من قبل، ستقاتلهم فيها إلى جانب أصحاب الأرض أزقة الشوارع الضيقة ومآذن المساجد المرتفعة، وستلفظهم فيها مياه البحر شديدة الملوحة والعنفوان، في تناغم استثنائي بين الطبيعة والبشر يعبّر عن رفض اجتماعي وجغرافي لهذا الاجتياح.
تزامنت هذه المقاومة مع حالة فائقة من التآزر بين كافة المكونات السياسية والقبلية للجنوب، التي وقفت صفا واحدا واستطاعت خلال وقت قياسي رد تلك الميليشيات على أعقابها، وحطمت حلمها المتعجل في فرض واقع جديد على الجنوب يشبه ذلك الواقع الذي فرضته الميليشيات شمالا، ولم يواجه في معظم المحافظات بذات المقاومة المجتمعية المتماسكة على الأغلب.
تعثرت رهانات الحوثيين المبكرة لإكمال سيطرتهم على كامل مساحة اليمن الجغرافية شمالا وجنوبا، وانهمكوا في صراع جزئي من أجل إكمال سيطرتهم على ما تبقى من مساحة الشمال، لكنهم في الوقت ذاته لم يصرفوا نظرهم تماما عن مشروعهم القديم للتمدد جنوبا وبأسلوب مختلف هذه المرة وبأدوات مغايرة، وتكتيكات أكثر خبثا وحذاقة، يأتي في مقدمتها العمل على خلق بؤر توتر أمني وإحياء صراعات مناطقية غائرة في الجنوب، واستقطاب ما أمكن من “الموتورين” أو المعروضين للبيع في سوق النخاسة السياسية، إما بشكل مباشر أو عن طريق وسطاء إقليميين عملوا طوال السنوات الماضية على اكتراء بعض الأبواق السياسية في الجنوب ووضعها في خدمة المشروع الحوثي.
استطاع الجنوبيون هزيمة المشروع الحوثي في وقت قياسي، وقدموا نموذجا أحرج أطرافا سياسية في جغرافيا الحرب اليمنية، حيث أثبت هذا النموذج بأن الحوثيين ليسوا تلك الميليشيات التي لا تقهر، وأنه يمكن هزيمتها وسحقها في حال تحييد أدواتها الخبيثة التي تعمل على تفكيك المجتمع المقاوم من الداخل، وتمهد الطريق أمام جحافل الاختراق الحوثي الأمني والعسكري والثقافي.
وفي الأيام القليلة الماضية تابعنا ما يبدو من وجهة نظري تدشينا لمشروع استهداف الجنوب المحرر من قبل الحوثيين، عبر وساطة هلامية تدثرت خلف مطلب إنساني هو إطلاق سراح القائد العسكري فيصل رجب، الذي اعتقله الحوثيون غيلة في الأيام الأولى لاجتياحهم للجنوب في مارس 2025 برفقة وزير الدفاع الأسبق محمود الصبيحي وشقيق الرئيس السابق عبدربه منصور هادي، اللذين أطلق سراحهما ضمن عملية تبادل الأسرى الأخيرة بين الحكومة الشرعية والحوثيين، فيما رفضت الميليشيات إطلاق سراح رجب، حتى تستخدم حقه المشروع في الخروج من المعتقل لإكمال مخطط ينفذه موالون للجماعة في الجنوب، يستهدف التطبيع الاجتماعي مع الحوثيين جنوبا برعاية جهات إقليمية معادية للشرعية والتحالف وتمويلها، كما تأتي هذه العملية كجزء من حملة دعاية لتجميل صورة الحوثيين جنوبا ومن ثم تفكيك المشهد الجنوبي وإرباكه من الداخل في سياق مشروع متكامل لنقل عناصر التوتر خلال المرحلة القادمة إلى الجنوب.
طوال الثماني السنوات الماضية وضع الحوثيون الجنوب نصب أعينهم، عبر خطة ممنهجة لتحويله إلى نموذج للهشاشة الأمنية والصراع السياسي والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، ساعدتهم في ذلك بعض الأصوات المستأجرة أو المكونات اليمنية التي زهدت فيما في يد الحوثي، وسال لعاب مطامعها السياسية لبسط سيطرتها على الجنوب المحرر تحت ستار الحفاظ على الوحدة، وفيما الهدف الهيمنة على هلال النفط والغاز الممتد من شبوة إلى المهرة مرورا بحضرموت.
عَلِقَ الجنوبيون بين أطراف طامعة تجمع بينها الخلفية الأيديولوجية، وساهم التمويل الإقليمي المعادي للتحالف العربي وبعض المكونات الوطنية في خلق مزيج غير متجانس سياسيا من الخصوم للجنوب، بما في ذلك بعض الجنوبيون أنفسهم الذين انخرطوا في مؤامرة تفكيك الجنوب وإضعافه، إما لدواع وأحقاد مناطقية وسياسية أو لهثا خلف مصالح فردية، تمنحها لهم تلك الدول التي جعلت نصب أعينها تعبيد الطريق أمام جحافل المشروع الحوثي لتعود للجنوب مرة أخرى.
وبالوقوف أمام عناصر المشهد القادم الذي يتكاثف في أفق التحولات السياسية المتسارعة، يبدو أن قائمة الخيارات تضيق فيما يتعلق بمصير الجنوب، مع فشل مشروع استعادة الشرعية شمالا من قبضة الحوثيين، وذهاب الجنوبيون نحو صيغة أحادية لا يكون للحوثي فيها اليد الطولى ولا حتى الشراكة. وبين الخيارين تتداعى التحديات التي تواجه الجنوبيون اليوم، وتسعى لإرباك مساعيهم الحثيثة لتوحيد جبهتهم الداخلية في مواجهة الأخطار المحدقة وردم الخلافات الداخلية بينهم التي غذتها أطراف محلية وإقليمية طوال السنوات الماضية.
وما نشاهده اليوم من فتور في رغبة الكثير من الأطراف اليمنية الاستمرار في معركة استعادة الشمال، يعطي انطباعا بأن ما يجري هو تصفية لملف الشمال عسكريا و سياسيا عبر اتفاق هش يقبل بالحوثيين كسلطة أمر واقع في الشمال، ما يعني أن يتفرغ الحوثيون لإكمال مشروعهم باتجاه الجنوب، في الوقت الذي تبحث فيه بعض القوى المتدثرة تحت عباءة الشرعية عن موطئ قدم في ترتيبات الوضع النهائي، تارة عن طريق محاولات العودة إلى شبوة، وأخرى من خلال التشبث بوادي حضرموت، فيما تظل المهرة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أيّ لحظة بعد سنوات من حشوها بكل أنواع المتناقضات المدعومة إقليميا ويمنيا بهدف إرباك التحالف العربي وإضعاف المجلس الانتقالي الجنوبي.
وفي ظل هذا المشهد الضبابي ترتفع أصوات خافتة وضعيفة من الشمال، ترى أن من حق الجنوبيين أن يستعيدوا دولتهم على أن يكونوا جزءا ملحقا بسياسة الأمر الواقع التي كرسها الحوثيون شمالا ويسعون لنقل تجربتهم الوحشية تلك إليها، بينما تنزاح الكتلة الأكبر في الشمال بدافع اليأس من هزيمة المشروع الحوثي وانعدام الخيارات نحو خيار براغماتي يتمثل في المضي قدما في دعم نمط اتحادي، يتسيّد فيه الحوثي كامل جغرافيا اليمن شمالا وجنوبا، ويوزع مظالمه بالتساوي على امتداد هذه المساحة، كثمن لبقاء الوحدة.
صالح البيضاني
صحافي يمني