احمد عبد اللاه
ثارت جماهير اليمن في “ربيع صنعاء” من “أجل دولة مدنية ديمقراطية ورفْض مشروع توريث حكم الأب لإبنه”. اكتظت الساحات بالشباب و بالخيام. و حين أفصحت المنصة عن هويتها من خلال طلائع شيوخ القبيلة وشيوخ الإسلام السياسي الذين بشروا بقيام دولة الخلافة من سومطرة حتى الكناري، لم يتوقف “شباب الساحات” بل استمروا يشعلون الأرض بالضجيج ودُفع بالكثير منهم نحو مهالك شتى. ثم وبعد عناء شديد تمخض “الربيع” عن ضياع الفصول الأربعة.
جاءت عاصفة الحزم وشهدت اليمن نزوح تاريخي عظيم لم تشهده منذ هجرة الأزد إلى السراة بعد انهيار سد مأرب.. وانتقل الساسة والجنرالات والشيوخ ورواد الساحات و من خلعوا رئيسهم القديم… إلى الرياض واسطنبول وغيرها. وفي الأخير تمخضت العاصفة عن مناصب ومكاسب و هزائم. أما البلاد فقد غرقت أكثر ولم تبق فيها رؤوس عالية سوى قمم المآذن الحزينة. وعوضاً عن توريث الحكم من الأب إلى الابن أصبح هناك توريث خالد بأمر سماوي صدر قبل ١٤٠٠ عام وسيبقى حتى خروج “المهدي المنتظر”!
أصبح انصار الله الحوثيون حكاماً على الأرض في صنعاء وأصبحت مقومات دولتهم أقوى بكثير مما كانت عليه عام ٢٠١٥. انفردوا بالسلطة وأسسوا نظامهم السياسي والاقتصادي وفرضوا تشريعات وجبايات وإدارة متكاملة، ونمت بشكل ثابت نخب وشرائح عسكرية وقبلية ومدنية جديدة تتبنى في غالبها خط أيديولوجي واحد. بالإضافة إلى وجود داعم إقليمي ثابت و قوي وجيش عقائدي كامل العدة والعدد ولجان شعبية وقبائل موالية وشعب منهك سلّم أمره للولاة الجدد.
جمهورية الإمام إذن أمر واقع، وهي براند حديث للملكية الهاشمية بعرشها الموروث المقدس، وقد تعيش ربيعها في صنعاء لدورة زمنية طويلة وسوف تحظى بدعم خارجي رسمي وقبول دولي بعد اتمام مشروع الصفقة مع السعودية.
وفي الطرف الآخر ثمة قيادات في “الشرعية” وفي الأحزاب ونخب سياسية وعسكرية واعلامية، تنتمي لمناطق حكم أنصار الله، سوف تصبح جاهزة لأن تتحول في نهاية المطاف، بعد السلام المفترض، إلى قوى موزعة: إما معارضة لأنصار الله في الشتات أو مشاركة لهم في صنعاء. ولا يستبعد أن يلاقي هؤلاء الشركاء المفترضون ما لاقاه ضيوف صنعاء من قادة الاشتراكي عام ٩٠ وبوسائل جديدة.
أما حزب الإصلاح، الذي مثل نواة المنظومة السياسية والعسكرية للشرعية، فقد ذهب بفطرته السياسية منذ وقت مبكر إلى التهيئة لنمط التعايش (survival mode)، واحتفظ بمواقف مزدوجة وأدوار متباينة من خلال خلايا وأدوات متعددة، جزء منها ينمّي مصالح مشتركة مع أنصار الله وآخر يتمسك بالمناصب والمكاسب في إطار حكومة الشرعية. وهكذا ظن أنه يستبقي نصيبه من عنب الشمال وبلح الجنوب إلى حين ميسرة.
الصورة تبدو واضحة في سياقاتها العامة لكن أحداً لا يستطيع أن يقدر حجم (صدمة السلام) ونتائجها إن اكتملت الهرولة وتحققت شروط انصار الله كاملةً.
حينها سيدخل الشمال مرحلة تاريخية غائمة لها قواعد صراعات مختلفة يمليها ويديرها أنصار الله وحدهم وبطريقة أكثر صرامة من الحالة اللبنانية، لأن لبنان لديه مجتمع مدني و خبرة عقود في إدارة لعبة الهوامش الديمقراطية التي تضمن حدود معينة للشراكة في السلطة.
أما الجنوب فإن مصيره معلق بقدرات قياداته ونخبه على التلاحم وردم الثغرات وتحصين النسيج الداخلي في مواجهة المحاولات الحثيثة للإيقاع به في دوامات داخلية بذات الوسائل القديمة لاضعافه وإرهاقه قبل الشروع بحرب مباشرة عليه.. خاصة وقد رأينا كيف “تسرع النوق لاترعى مراعيها”.
ولهذا لا توجد خيارات كثيرة لأن “الشق الآخر من الريح” عاصف مظلم وأسوأ من٩٤ بفارق مهول. فإما أن يبقى حراً أو أن تصبح دماؤه عالقة في كتب التاريخ باعتباره شهيد الصفقة.
في المحصلة ثمة تخوفات مشروعة بأن الجميع أمام وضع غامض وصفقة سلام سعودية تعتبر بكل المقاييس مخرج طوارئ وليست خارطة طريق آمنة. وعليه سوف تلتقط جميع الأطراف كراريسها لتدوين مقررات الفصل الجديد والتسابق نحو المراكز التي تليق بأهدافها، لأنها تعلم بأن الضعيف هو من يتخلى عن مقعده و”البليد هو الذي يمسح السبورة” في نهاية الدرس.
احمد عبد اللاه
٣٠ ابريل ٢٠٢٣