مقالات

“العصفور الأزرق” يبيض ذهباً



لا يشعر الكثيرون ممن لديهم مؤهلات علمية وثقافية، والذين يتولون مناصب مرموقة، بالتقدير المنتظر من المجتمعات التي ينتمون إليها، ولذلك شكلت الشارات الزرقاء لتوثيق حسابات تويتر بمثابة نوع من رد الاعتبار لمكانتهم الاجتماعية، والإشهار الذي بفضله أكد الملايين على قيمتهم بالنسبة إلى الآخرين.

جعلتنا الشارات الزرقاء نشعر نحن وكل من توّجه تويتر بها، أن هذا “العصفور الأزرق” الملحق بعلامة تعريف زرقاء يُكسبنا المكانة والتقدير اللذين يتعين على الآخرين إبداؤهما لنا، وللوهلة الأولى صدقنا أننا محور الاهتمام والاحترام في محيطنا الافتراضي والاجتماعي.

هذه المشاعر تبدو مألوفة لعدد لا يحصى من فئات المجتمع الافتراضي، من مختلف الثقافات ومن كل المراحل العمرية، حتى بالنسبة إلى جيل اليافعين، فالجميع أصبح في سباق محموم نحو نقطة “التفرد” بـ”علامة التعريف”.

مع تزايد الساعين للشهرة والنجومية وهواة التميز أو “الاستعراض”، زادت شهية إيلون ماسك لجني الأرباح عبر جعل “العصفور الأزرق” “يبيض” ذهباً أو كـ”بقرة حلوب” لا يجفٌّ لها ضرع، ففرض مبلغا ماليا قدره 8 دولارات شهرياً لمنح الشارة الزرقاء.

مما يثير السخرية أن ماسك زعم قبل أشهر أن قراره بشراء موقع تويتر كان هدفه الأساسي “مساعدة الإنسانية وإطلاق حرية التعبير”، حيث أكد الملياردير الأميركي في تغريدة له أنه لم يرغب في شراء تويتر لكسب المزيد من المال، بل لمساعدة الإنسانية التي يحبها، لكن لا شك أن ماسك يريد تحقيق مكاسب أكبر من “العصفور الأزرق” الذي يمثل مصدرا قيما للطبقة النافذة ماليا، بغض النظر عما إذا كانت تحمل مؤهلات علمية أو ثقافية بالفعل.

تتكشف الآن طبقية “شارة التعريف الزرقاء” وكيف بدأ تويتر بتقسيم المجتمع الافتراضي إلى طبقات، بعد أن أصبحت شارته الزرقاء بمثابة الميزة التي يتمتع بها الأشخاص النافذون ماليا، والأسوأ من هذا أن البعض تعمد وضع صور في بروفايله لا تعود له وانتحل أسماء شخصيات معروفة للوصول إلى أصدقاء تلك الشخصيات وعائلاتها على حد سواء، وتجلى ذلك بشكل سافر عبر انتحال صفة الصفحات التي تمثل مؤسسات مهمة وأشخاصا لهم تأثير، لنشر معلومات مضللة.

لسوء الحظ، فإن الأشخاص المهمين والأكثر ثقافة وتعليماً، والذين ينبغي أن يكونوا في دائرة الأضواء، هم الذين لا يستفيدون غالباً من الشارة الزرقاء لأن تويتر حاد عن مبدأ تقييم الناس بناء على إنجازاتهم وأصبح همه الأكبر هو ما يملكونه من مال، ولذلك نتائج سلبية ربما تكون غير مقصودة من ماسك، لكنها توسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في تملك شارة “العصفور الأزرق”.

إنها قضية مهمة على مستوى المجتمع الافتراضي، لكنها تخلق انقساماً حقيقياً في الواقع، والأكثر من ذلك هو أنه قد ينظر بطريقة ما إلى الألقاب العلمية على أنها شيء يمكن للناس التحكم فيه وشراؤه بالمال.

على أي حال، لا تزال الألقاب العلمية مهمة في عصرنا الحديث، لكن تويتر صنع لقبا افتراضيا جديدا يتفاخر به المستخدمون، ويتمثل في شارة صغيرة للغاية، لكنها باتت تمتلك قيمة كبيرة في المجتمع الافتراضي، عندما تستقطب المستخدمين وتزيد عدد المتابعين، وتجعل بعضهم ينظر إلى شارة التعريف قبل المعلومة التي تقدمها التغريدة، ويحكمون على الأشخاص عبر إلقاء نظرة خاطفة على “العصفور الأزرق” الذي يباع ويشترى بثمانية دولارات شهرياً، وللنافذين ماليا نصيب الأسد في هذا العصفور.



يمينة حمدي

صحافية تونسية مقيمة في لندن

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى