مقالات

النموذج الليبي واليمن


تشابه في التركيبة القبلية ولكن ذلك لا يعني أن الحل سيكون متطابقاً

مصطفى النعمان


الوضع الذي وصل إليه اليمن بعد 9 سنوات من الحرب يوجب التفكير في مقاربات جديدة للتوصل إلى حل سياسي (أ ف ب)

في يناير (كانون الثاني) 2016 حضرت، بدعوة خاصة من منظمي منتدى “دافوس”، الاجتماعات التي تجري سنوياً في القرية السويسرية التي تحمل اسم المنتدى بالقرب من مدينة غراوبوندن على ضفة نهر لاندوسر في سويسرا، وترتفع 1560 متراً فوق مستوى سطح البحر على بعد 184 كم شرق العاصمة السويسرية “برن”. ويشتهر المنتدى أنه التجمع الأهم دولياً ويحضره عدد كبير من القادة العالميين، الذين يجدون في المنتدى فرصة لعقد لقاءات جانبية مكثفة خلال وقت قصير، وفي الواقع أن هذه الاجتماعات تثير اهتماماً واسعاً لا يقل عن أهمية القضايا التي تطرح خلال أيام المنتدى.

كانت المشاركة تجربة مبهرة أتاحت لي الاستماع مباشرة إلى عدد كبير من صانعي السياسات الدولية عن القضايا التي تشغل هموم الدول الكبرى، فتصبح جزءاً من اهتمامات العالم بأجمعه، وكان عنوان المنتدى “الثورة الصناعية الرابعة” التي قال عنها رئيس مؤسسة منتدى دافوس إنها “عنوان المرحلة المقبلة”، وأكد على “التحول الجاري للمجتمع والاقتصاد المدفوع بالتطور في الذكاء الاصطناعي والروبوتات والماكينات الآلية وطباعة ثلاثية الأبعاد وتكنولوجيا النانو وغيرها من مجالات العلوم”.

في إحدى الجلسات الجانبية دار نقاش حول قضايا المنطقة العربية أدارته الصحافية البريطانية ليز دووست، وكان المتحدثان الرئيسان رئيس الوزراء الليبي السابق، الراحل محمود جبريل، ورئيس الاستخبارات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل، وبطبيعة الحال كانت الحرب في اليمن حاضرة في النقاش التمهيدي الذي جرى بين الرجلين.

وخلال الجلسة تحدث محمود جبريل عن تعقيدات الوضع الليبي الداخلية والإقليمية والدولية، وتناول التشابه في التركيبة القبلية في بلاده واليمن وأثرها على الأزمة في البلدين، وأن ذلك يشكل صعوبات أمام المصالحة الوطنية لاستبعاد القيادات القبلية المهمة من المساعي التي تجري، وعدم الاستماع إلى آرائها، وكان تعليق الأمير تركي الفيصل شديد التفاؤل بأن الحرب في اليمن تقترب من نهاياتها، وشرحٍ الاختلاف بين الوضعين الليبي واليمني قائلاً، إن التدخل الخارجي في اليمن تم بطلب من “الرئيس الشرعي” حينها عبدربه منصور هادي، بحسب تعبيره، على عكس الأمر في ليبيا.

بعد انتهاء الرجلين من تقديم وجهتي نظرهما، طلبت التعليق وقلت إن كلام محمود جبريل كان دقيقاً حول التشابه بين الحالين الليبية واليمنية في ما يخص التركيبة القبلية، ولكن ذلك لا يعني أن الحل سيكون متشابهاً. وأكدت أن طول أمد الحرب سيزيد من تشعباتها على كل المستويات، وأنه كان يجب بذل الجهود لوقفها لما ستخلفه من معاناة إنسانية، وقدرت أنه كان من الضروري التعامل معها بطرق مختلفة قبل التوجه إلى الحل العسكري.

تذكرت هذا الحوار خلال زيارتي الأخيرة الأسبوع الماضي إلى الرياض، لأني طرحت على عدد من المسؤولين اليمنيين والدبلوماسيين فكرة مفادها أن الوضع الذي وصل إليه اليمن بعد تسع سنوات من الحرب والأحقاد والانقسامات على كل المستويات، يوجب التفكير في مقاربات جديدة للتوصل إلى حل سياسي تدريجاً.

نعلم جميعاً أن الرياض تسعى حالياً إلى معالجة المحاذير التي تقف عائقاً أمام الوصول إلى المشاورات السياسية، وذلك عبر تهيئة الأرضية لها، ومن ثم نقل الملف إلى المبعوث الأممي الذي كنت في كل حواراتي السابقة معه ومساعديه، أؤكد على حيوية فصل الملف الإنساني بكامل عناصره (فتح الطرقات في كل اليمن، وفتح الموانئ والمطارات، ودفع المرتبات وإطلاق كل المحتجزين) عن الملف السياسي، وأنه في حال تفكيكه سيخفف من التوترات والتشدد عند الجميع، مما سيتيح أجواء أقل تشنجاً وقابلية أكثر للحديث مع والاستماع إلى الآخر.

بالاقتراب من الأوضاع في ليبيا سنجدها شديدة الانقسام وفي الوقت نفسه واضحة المعالم جغرافياً بين الشرق والغرب، والسلطتان فيهما معروفتان ومعلومة امتداداتهما الإقليمية، ولكن العداء بينهما وتضخم المصالح المالية للقيادات في الجغرافيتين، عطلا كل محاولات تفعيل المؤسسات العامة على رغم الاتفاق على توحيد أعمالها، ومع ذلك فإن حركة الطيران مستمرة والطرقات مفتوحة وآمنة، كما أن الطرفين مازالا متمسكين بجواز سفر بإجراءات موحدة، وعلى رغم وجود فرعين للبنك المركزي في كل من بنغازي وطرابلس، إلا أنهما يتصرفان بما يكفل الحفاظ على قيمة العملة الوطنية على رغم وجود طبعتين مختلفتين، إحداهما في بنغازي والأخرى في طرابلس، وبما أن عائدات الموارد المالية تكفي كل البلاد بسهولة، فإن ذلك يشكل عاملاً في غاية الأهمية لعدم الانهيار الكامل للأوضاع المالية، وقام البنكان في ديسمبر (كانون الأول) 2021 بالتوقيع على “اتفاق لإطلاق عملية توحيد المصرف المركزي بشكل فعلي، والتوافق على مسارات العمل والفرق الفنية المعنية بتنفيذ عملية التوحيد”. ومن المؤسف أن بلداً يمتلك ثروات هائلة وشواطئ طويلة غير مستثمرة، يعيش في حال من الفقر، ويضطر شبابه إلى الهجرة بحثاً عن أمل وعمل.

وعلى رغم كل الصعوبات فإن الليبيين، بعيداً من التدخلات الإقليمية، قادرون على إنهاء الانقسامات لأن البلد فيه من الموارد ما يغني تجار الحرب عن التعامل مع الخارج لتدمير بلادهم، كما أن السلطتين في الشرق والغرب يمكنهما التعاون لتفعيل نشاط المؤسسات الحكومية، وتمتلكان من الموارد المحلية ما يكفي إلى حد معقول من تسيير الأعمال.

وفي محاولة لإسقاط ما يحدث في ليبيا على الأوضاع في اليمن، سنجد أن الخطوط في الجغرافيا اليمنية قد تبعثرت على مستويات عدة، بينها المذهبي والمناطقي والقبلي والقروي، كما أن الإيرادات التي تتوفر في عدن وصنعاء لا تكفي وحدها لتسيير نشاطات أي منهما، وقد يكون مناسباً البحث في النموذج الليبي موقتاً وقبول الأمر الواقع، أي أن يحكم البلد بسلطتين ينشأ بين مؤسساتهما تعاون في الشؤون المالية وتلك المرتبطة بحياة الناس ومعيشتهم وتنقلاتهم، مع تفادي ما أصاب النموذج الليبي من فشل بسبب الجشع.

وهنا أكرر ما طرحته في مارس (آذار) 2016 عن أهمية البحث في عقد مؤتمر يمني – يمني على غرار الطائف اللبناني، ودراسة ما نتج عنه من تبعات نشهد جميعاً نتائجها للاستفادة منها والعمل على عدم تكرارها، وعلى رغم يقيني أن ولي العهد السعودي مصمم على إغلاق ملف الحرب، إلا أنه حتماً يدرك أيضاً أن استقرار المنطقة لن يكون ناجزاً من دون استقرار وتنمية اليمن.

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى