في معركة تحرير عدن.. محمد بن زايد وفن القيادة
بطولات غيرت التاريخ
وفي كتابه “25 يوماً إلى عدن”، يورد الباحث البريطاني مايكل نايتس، واحدة من هذه البطولات، التي غيرت تاريخ المنطقة بالكامل، وأنقدتها من السقوط في براثن الغوغائية والفوضى.
ونايتس، واحد من أهم المتخصصين في التأريخ العسكري بالشرق الأوسط، فهو زميل في برنامج الزمالة “ليفر” في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، ومتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران ودول الخليج، وعمل على نطاق واسع مع الوكالات العسكرية والأمنية المحلية في العراق ودول الخليج واليمن، وحصل على الدكتوراه من “قسم دراسات الحروب” بـ “الكلية الملكية في لندن”.
ويروي الكتاب الصادر أخيراً، قصة معركة حدثت في مثل هذه الأيام قبل ثمانية أعوام، خلال شهر رمضان عام 2015، عندما قرر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة “حفظه الله” أن يمد يد العون إلى دولة عربية جارة، كادت أن تسقط في براثن المد الإيراني، فتضيع هويتها ومعالمها، فوجه القادة العسكريين في الإمارات بأن أمامهم 25 يوما لتحرير عدن.
وحسناً فعل “مشروع كلمة للترجمة” التابع لـ “مركز أبوظبي للغة العربية” بدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، أن سارع بإصدار ترجمة وافية لهذا العمل الفارق، قام بها المترجم والشاعر سامر أبو هواش، والذي قدم من قبل عشرات الترجمات المهمة في كافة المجالات.
بدأت فصول هذه الملحمة في مارس 2015، عندما سيطرت ميليشيا الحوثي على مطار عدن الدولي ومناطق واسعة من المدينة الاستراتيجية المطلة على خليج عدن وبحر العرب، بعد انقلابها على الحكومة الشرعية. واستجابة لاستغاثة الشعب اليمني والحكومة اليمنية بعد تقدمها بطلب عاجل للدعم الدولي من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والجامعة العربية، انطلق التحالف العربي وعلى رأسه المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة للإنقاذ والدعم، وجاءت في هذا السياق العملية الإماراتية المشهودة التي أمر بها الشيخ محمد بن زايد، الذي لم يتعود يوماً أن يرد ملهوفاً، ولا أن يترك مستجيراً دون أن يُجِره.
سيرة موثقة
الكتاب ليس مجرد توثيق لواحدة من أهم المعارك في العصر الحديث، بل هو جهد بحثي من الطراز الأول يتضمن خرائط وتفاصيل عسكرية وصوراً من الميدان، وهو أول سيرة عسكرية للإمارات في تلك الحرب، بلسان جنودها وبحارتها وطياريها أنفسهم، حيث أمضى مؤلفه خمس سنوات يتقصى المصادر الحقيقية للقصة، وقضى مئات الساعات في إجراء المقابلات مع الطواقم العسكرية الإماراتية والعيش معهم، وجمع القصص أثناء انتشارهم على جبهات الحرب الأخرى في اليمن، لكي يلم بكل تفاصيل قصة تحرير عدن، ويقدم سرداً ميدانياً لعملية تحرير عدن مثلما رواها المشاركون بها وبعد تدقيق الوقائع تدقيقا كاملا. يقدم الكتاب التفاصيل الكاملة للعملية منذ بدايتها وحتى نهايتها، متضمنة تفاصيل مذهلة، عن أول 8 جنود من القوات الخاصة الإماراتية تسللوا سراً إلى عدن، خلف خطوط الحوثي، وإسقاطهم في البحر ليلاً بواسطة طائرات الهليكوبتر وإحضارهم إلى الشاطئ من قبل عناصر من المقاومة اليمينة الجنوبية متنكرين في شكل صيادين، حيث كانت الدفاعات حول عدن توشك على الانهيار والدبابات الحوثية تتقدم إلى قلب المدينة ولا سبيل لإيقافها، حتى وصل الأمل مع جنود الإمارات.والكتاب يستحق التوقف عنده لأكثر من سبب، فهو يحكي قصة النخوة العربية، التي أبت أن ترى مدينة عربية تسقط في إيدي الميليشيات التي تلتهم الأخضر واليابس بسبب ولاءاتها السياسية والطائفية، ويسجل تضحيات كوكبة من أبناء الإمارات الذين جادوا بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية في ساحة الشرف، كما يحكي قصة منع إيران وأذرعها العسكرية من كسب موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية، ما قد يقربها من الأماكن المقدسة في السعودية من ناحية، ويهدد أمن وسلامة الملاحة البحرية في قناة السويس ووقف عشرين بالمائة من شحنات النفط العالمية، كما يقدم تفاصيل تروى لأول مرة من مصادرها الأصلية عن بطولة قوات النخبة الإمارتية في التصدي للميلشيات الحوثية ثم مطاردتها حتى 100 كيلومتر في جميع الاتجاهات حول عدن، والدور الكبير الذي قام به الجنود الإماراتيون لإعادة الأمور إلى نصابها، لأنه لولا هذا الدور لكنا نرى الآن منطقة أخرى غير منطقتنا التي نعرفها.
محمد بن زايد والقيادة
وأهم ما يميز هذا الكتاب أيضاً هو تسليطه الضوء ـ لأول مرة ـ على الدور الذي قام به صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد الذي كان حينها ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، منذ القرار الأول بتلبية نداء الاستغاثة ومد يد العون، وحتى أفكاره وتوجيهاته أثناء الحرب التي كان لها الكلمة الفصل في حسم المعركة، وحتى الانتصار في 25 يوماً فقط وتحرير عدن.
ويتتبع نايتس في كتابه الحكاية منذ البداية، عندما أعلم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، قيادات الجيش بأن التحالف سيبدأ الضربات الجوية في تلك الليلة وأن القوات الجوية الإماراتية ستكون ضمن تلك العمليات، ثم يأتي على تطور العملية من الاكتفاء بالضربات الجوية إلى التواجد البري لتحرير مطار عدن، ثم يذكر لقاءاته المستمرة مع قادة الجيش، وتوجيهاته التي كانت السبب في تغيير دفة المعركة حتى إعلان الانتصار.
يصف الكتاب محمد بن زايد بأنه ذو “نظرة متبصرة، فقد كانت لديه قدرة فريدة على إنجاز أصعب الأمور، يفكر دوماً خارج الصندوق، ويفاجئ قادته العسكريين، لا سيما في الأيام الأولى من حرب عدن، وهو قادر على جعل المستحيل ممكناً”، كما يقول في موضع آخر بأن الابتكارات في الحرب “مصدرها الشيخ محمد بن زايد الحاضر دوما في الخلفية، والذي يضع الأدوات المناسبة في الأيدي المناسبة”.
كان الشيخ محمد بن زايد، متقدماً خطوة في تفكيره العسكري، على كل من حوله، فهو يولي اهتماماً كبيراً للتكنولوجيا العسكرية والتكتيكات القتالية كما أنه طيار ويعرف إمكانات القوة الجوية، لذا أثبتت المعارك صحة حدسه بأن القوة الجوية وحدها غير قادرة على إنقاذ عدن، بل تحتاج إلى تدخل بري.
والشيخ محمد بن زايد، يملك من الخبرة العسكرية الكبيرة ما يجعله قادراً على تغيير مسار المعارك الحربية، بسبب خبرته الكبيرة التي اكتسبها من دراسته وتخرجه في أكاديمية “ساندهيرست” العسكرية الملكية في المملكة المتحدة في عام 1979، حيث تلقى سموّه التدريبات هناك على سلاح المدرعات والطيران العمودي والطيران التكتيكي والقوات المظلية، كما عزّز خبراته بقيادة فصيلة دروع وسرب طائرات غزال العمودية وقيادة مدرسة الطيران وقيادة الكلية الجوية. وخلال مسيرته العسكرية الطويلة، تقلّد الكثير من الرتب العسكرية والمناصب القيادية، أهمها قائد القوات الجوية والدفاع الجوي، ونائب رئيس أركان القوات المسلحة، وذلك قبل أن يصبح رئيساً لأركان القوات المسلحة الإماراتية في عام 1993، ويتقلّد رتبة الفريق عام 1994، حتى صار نائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، وترفيعه إلى رتبة فريق أول في يناير 2005.
ولعل من أهم المحطات التي يتوقف عندها الكتاب، تلك اللحظات الحرجة في سياق الحرب، مع قرب سقوط عدن، عندما قرّر الشيخ محمد بن زايد وضع أعلى الإمكانات العسكرية والمقدرات التكنولوجية المتطورة في تصرف المدافعين عن المدينة، وهي تكشف فحسب الحصيف وبصيرته الصائبة خلال المعركة، ويروي لنا المؤلف كيف سعى الشيخ محمد بن زايد قبل تلك المعركة بسنوات إلى بناء القوة العسكرية الإماراتية، والاستثمار في الصناعات العسكرية، إلى درجة أن دولة الإمارات باتت تبيع مقدرات تكنولوجية متطورة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أقوى دولة في العالم، كما سعى إلى بناء العقيدة القتالية في القوات المسلحة الإماراتية وأدخل برنامج الخدمة الوطنية، وسعى إلى أن يحصل الجنود الإماراتيون على أفضل التدريبات والمعدات القتالية، ونتيجة هذا كله كانت القوات المسلحة الإماراتية، بإمكاناتها وقادتها وجنودها، على أتم الاستعداد لهذه المهمة الجليلة.
محمد بن زايد هو رجل السلام، ودوره في ذلك يشهد به القاصي والداني، لكن لا سلام دون معرفة كافية بالحرب والاستعداد لها، لذلك أصبح جيش الإمارات واحداً من أفضل الجيوش في المنطقة، وما قامت به القوات المسلحة الإماراتية في عملية تحرير عدن، كان سبباً في إنقاذ المدينة وإحلال السلام، ومنع اندلاع حرب إقليمية كبيرة، يعلم الله وحده، عدد الأرواح التي كانت ستزهق فيها.
كما لابدّ من التوقف عند التفاصيل المذهلة التي يوردها الكتاب للجهود الإماراتية بعد تحرير عدن، وذلك لتوفير أسباب الحياة الكريمة لسكان المدينة، وتوفير كافة احتياجاتهم ومساعدتهم على بناء المرافق الصحية والحياتية الحيوية في المدينة، حتى لينطبق على الشيخ محمد بن زايد، ومواقفه الشجاعة زمن الحرب والسلم معاً، قول أبي تمام:
فتى عنده خير الثواب وشره
ومنه الإباء الملح والكرم العذب
ملاذ أخير
وقرار المشاركة في الحرب، وتحرير عدن، لم يكن قرارا متسرعاً، بل كان ضرورياً فقد شكل الملاذ الأخير بعد ستة أشهر من الجهود غير المثمرة لدفع الأمم المتحدة والشركاء الآخرين لوقف الزحف الحوثي للاستيلاء على اليمن أو عكس اتجاهه، وكما يقول مؤلف الكتاب فإن الإمارات كانت لديها رؤيتها الاستراتيجية للانضمام إلى التدخل العسكري، لمساندة الحكومة اليمنية المدعومة دولياً، كما أن جميع الجنود الإماراتيين الذين ذهبوا إلى اليمن كانوا من صفوة المقاتلين الذين تطوعوا لهذه المهمة وهم رأس الرمح الذين جرى اختيارهم بعناية واستطاعوا أن يحققوا النصر لعروبتهم.والإمارات موقفها واضح من الحرب على الإرهاب، فهي منذ البداية تضع عينها على تنظيم القاعدة الذي كان ينشط في اليمن، كما أن دورها واضح في إنقاذ المنطقة من براثن داعش، وهو ما أكده الشيخ محمد بن زايد حين قال عن القوات المسلحة الإماراتية بأنها “كانت على العهد بها دائماً في مواجهة كل التحديات التي مر بها الوطن والمنطقة خلال العقود الماضية، وبإذن الله ستظل الصخرة القوية التي تتحطم عندها القوى المعادية وأهدافها ومؤامراتها الشريرة”.
إن تفاصيل هذه العملية العسكرية المدهشة التي أوردها كتاب “25 يوماً إلى عدن” تستحق أن يسلط عليها الضوء إعلامياً، بل أن تكون في المناهج المدرسية لكي تعرف الأجيال الجديدة الدور الكبير الذي قامت به دولة الإمارات في إنقاذ المنطقة، وتوجيه رسالة إلى كل من تسول له نفسه، بأن هذه المنطقة فيها جيش قوي يحميها، ودرع واق، وعزيمة لا تلين، وهمة لا تخمد.. وعلى الباغي تدور الدوائر.