الشيطان في التفاصيل
مصطفى النعمان
صار من الممكن اليوم القول إن الحرب الإقليمية في اليمن لفظت أنفاسها الأخيرة مع التوقيع على اتفاق بكين بين السعودية وإيران في 10 مارس (آذار) 2023، وهو الاتفاق التاريخي الذي أقحم الصين للمرة الأولى كلاعب سياسي مباشر في المنطقة العربية بعد عقود طويلة من الخجل الدبلوماسي وعدم التدخل للحل أو فض الخلافات، والنأي بنفسها دائماً عن الوساطات ورعاية المصالحات البينية في الإقليم والعالم، ويشكل الاتفاق عصراً جديداً من العلاقات الدولية والتنافس والصراع بين الدول العظمى على النفوذ في المنطقة، لكنه وهو الأكثر أهمية أظهر بجلاء التحول المذهل في مرونة السياسة الخارجية السعودية التي منحت الصين هذا الدور الحيوي، وفتحت كل القنوات الخارجية متخلية عن التحفظات والحذر غير المبررين.
لم يكن الانخراط الإيراني في اليمن خافياً قبل اليوم الأول من الحرب، وإن كان بطبيعة الحال قد تصاعد مع اندلاع الحرب، وكان من نتائجها المباشرة تنامي التدخل الإيراني الصريح، مما صعد القلق المبرر في الرياض التي قدرت حينذاك اللجوء إلى التدخل العسكري كحل وخيار وحيدين وضروريين لتقديرها بتعاظم أخطار التغاضي عما يحدث عند جارتها وعلى حدودها الجنوبية.
اليوم لم يعد مجدياً الحديث عما جرى منذ بداية الحرب إلى الثاني من أبريل (نيسان) 2022، الذي أعلن فيه عن هدنة رسمية لمدة شهرين، لأن التفاصيل صارت معروفة بكل تفاصيلها، ولكن المهم هو البحث المعمق في المسارات المقبلة واحتمالات السلام المستدام ومعوقاته. وكنت قد كتبت في 24 يناير (كانون الثاني) 2023 في هذه المساحة، مقالة بعنوان “الحرب انتهت لكن السلام بعيد”، والواقع أن هذا الاستنتاج ما كان رغبة شخصية وإنما مبني على واقعية مفرطة وإدراك لما أحدثته سنوات الحرب من تهشيم للبنى الاجتماعية، وما أنتجته من تشوهات في العلاقات داخل وبين المناطق المختلفة، ومشهد كهذا لا أتصور أن معالجته ستكون ممكنة بمجرد اللجوء إليه على رغم أن وقف الحرب هو الخطوة الأولى التي بقيت أدعو لها منذ الأيام الأولى لاندلاعها.
الآن صار من المحتم التفكير في الوسائل المتاحة والممكنة للتوصل إلى صيغ تسهم في الانتقال من حال العداء، الذي أحكم خناقه على المجتمع وجعله منقسماً في كل الاتجاهات والمستويات، إلى حديث عن المواطنة المتساوية والعدالة كأساس للمصالحة الوطنية الداخلية، ولعل الأولوية هي البدء في إيقاف أو على الأقل تخفيف لغة العداوة في وسائل الإعلام الموجهة من كل الأطراف، ووقف حملات الأحقاد التي كانت تبثها ضد بعضها، ومن الممكن اتخاذ الإجراءات في هذا السياق لأن أغلبها موجه ويعمل بتمويل حزبي أو حكومي.
لقد تسببت الحرب اليمنية في إحداث أضرار فادحة في المجتمع لا يمكن الاكتفاء بالتعامل معها بالقول الكريم “عفا الله عما سلف”، لأن ذلك ربما كان صالحاً في القضايا الشخصية، ولكنه حتماً غير مفيد لاسترداد روح المواطنة والمساواة والعدل، ومن هنا يجب البدء في استعادة نشاط المهتمين بالعدالة الانتقالية كمبدأ أصيل يؤسس لمصالحة وطنية حقيقية.
وإنني على يقين أن معوقات تثبيت المراحل الأولى من الاتفاق لن يكون يسيراً تجاوزها، لأن منسوب الثقة بين اليمنيين الذين تمترسوا خلف أوهامهم، بلغ حداً مروعاً من الهبوط بسبب الإسفاف والفجور في الخصومة، ونبش قبور التاريخ، وبعث الموتى لاستخدامهم في إثبات أحقية هذا الطرف أو ذاك، وهذا أمر قبلت الرياض مهمة التدخل في تفاصيله والقيام بدور الساعي لسد الفجوات التي أحدثتها الحرب، وقد عمدت لإنجاز هذه الأمور على التعاون الوثيق مع سلطنة عمان، بما يوفر سانحة مهمة جداً للبدء في تثبيت وقف شامل لإطلاق النار.
اليوم صارت الرياض تقف على مسافة متساوية من كل المتحاربين، وهي دوماً الحاضر الأهم في الأحداث اليمنية والأكثر تأثيراً وتأثراً، وقد كتبت في 26 مارس 2016 في صحيفة “عكاظ” بمناسبة مرور عام على اندلاع الحرب، أن الوقت قد حان “كي تبتعد القوى السياسية والاجتماعية اليمنية من أوهام القوة التي تختزن داخلها عناصر حروب قادمة، وأن تسهم مجتمعة للدفع الإيجابي لإيجاد توافق داخلي في حدوده الدنيا، يمثل مدخلاً نحو المصالحة الوطنية التي تستطيع ومن الواجب أن تقودها السعودية، وأذكر بدعوتي الأسبوع الماضي لطائف يمني، يكون هدفه الاتفاق على عودة الحياة المدنية وتشكيل حكومة مقبولة داخلياً وإقليمياً، تتولى أولاً التهيئة لانتظام عمل مؤسسات الدولة كي تبدأ عملية نزع سلاح التنظيمات كافة دون استثناء، مما سيتيح إعادة الحياة للعمل السياسي المنضبط الذي يجعل مصلحة اليمن والخليج همه الأول”.
لقد تسببت النزاعات البينية في المنطقة باستنزاف جهود ووقت وأموال دولها، في حين كان من الضروري توجيهها نحو البنى التحتية والتنمية، وأزهقت أرواح بريئة في دورة صراعات عبثية، وحسناً فعل ولي العهد السعودي حين قرر بشجاعة وإصرار إغلاق ملفات الخلافات كافة في الجزيرة العربية والخليج، والتفرغ للتركيز على المصالح التي يمكن توسيعها بين دولها، وقد ذكر لي أحد الأصدقاء في الرياض أن القرار السعودي واضح و”ألا مجال سوى الإبحار وإخراج الجميع من القتال إلى السلام”.
وعلى رغم كل ذلك، يجب الاعتراف بأن كثيراً من الصعوبات ستواجه مساعي الانتقال من مرحلة إلى أخرى ووضع حد نهائي للحرب اليمنية، لأن مسبباتها هي تراكمات سنوات سبقت الحرب وتفاقمت مع اندلاعها واستمرارها وطول زمنها، ولمعالجة نتائجها يجب على الجميع أن يعوا تماماً أن اليمنيين وحدهم عليهم مواجهة أزماتهم ومعالجة مشكلاتهم، وفي الوقت نفسه، على جماعة أنصار الله مسـؤولية وواجب طمأنة الناس، وأن تدرك أن حكم البلاد لن يستقر لها أو لغيرها من دون تراضي الجميع على شكل الحكم ومنهجيته.