مقالات

لا أحد يحب الفقراء إلا أمهاتهم


د. منى نوال حلمى

أخشى ألا تأتى سطورى على أكمل وجه أرضاه. فأنا أكتبها في يوم من أيام «إبريل» شهر مولدى. وهذا يكفى، لكى يتعكر مزاجى، وأتحول إلى كتلة من الأعصاب المتوترة، المتوجسة. و«إبريل» في موسم الربيع، وأنا أكره الربيع، وكل ما يصاحبه من تفجر الطبيعة، وصخب البشر. أنا امرأة خريفية الهوى، شتائية المشاعر.

وتجتاحنى الأسئلة العدمية والعبثية، لمنْ أكتب؟.

ما جدوى الكتابة المتكررة منذ سنوات، وتأليف الكتب؟.

ماذا يحدث للعالم، لو مرضت بداء خبيث، أو مت غرقا، أو حرقا، أو قهرا.. بطلقة رصاص، أو نصل سكين، أو بنوبة قلبية من حصار السفه والتفاهة والسخف؟. هل تغير الشمس مسارها وتشرق من الغرب، لو انحرفت أو كفرت أو انتحرت؟؟.

العدم يلف جميع الأشياء، لا معنى ولا أهمية لمقالات وقصائد وروايات، تنتزع أناقة الحروف، وتناغم الأبجدية. هل هناك ما يبرر كل هذا التعب والاستنزاف؟. هل هناك ما يستحق أن أوجد، وأن أستمر في الوجود، وكل منْ يهمهم أمرى دون مصالح، دون أقنعة، دون شروط، قد غادروا إلى المحطة الأخيرة، وافترشوا التراب مسكنا أبديا؟؟.

وجاء بخاطرى أن جبران خليل جبران (6 يناير 1883- 10 إبريل 1931)، أي أن اليوم ذكرى الرحيل الثانية والتسعين، قد قال أمرا مشابها، حين تساءل: «هل هذه هي الحياة التي كنت أركل بطن أمى من أجلها؟».

كلما قبضت على روحى تلك التساؤلات الفلسفية العدمية العبثية، أفلت منها قائلة:

ما هذه الرفاهية الفكرية؟؟… ألا يكفى أننى لست من الجائعين والمشردين، أو من الملايين الذين يعيشون ويموتون تحت خط الفقر… ألا يكفى أننى من الطبقة المخدومة، لا الطبقة الخادمة؟؟… الطبقة المالكة، لا الطبقة المملوكة؟؟….. الطبقة الآمرة، لا الطبقة المأمورة.

منْ يعيش تحت خط الفقر، ليس لديه الطاقة، لأسئلة فلسفية. انشغاله الوحيد المتكرر يوميا هو: «كيف أجد طعاما يبقينى حيا؟». المعدة الخاوية لا تتفلسف، ولا تطرح الأسئلة.

خُصص يوم 17 أكتوبر ليكون اليوم العالمى لإبادة الفقر. ولكن دون أي حلول جذرية، لإبادته فعلا. الصين التي تفتخر في كل مناسبة أن لا دين لها، هي البلد الوحيد الذي استطاع انتشال ما يقرب من 800 مليون شخص من الفقر المدقع- تحت خط الفقر- عام 2021، في الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعى الصينى.

الميزة الوحيدة للفقيرة، أنها لو أحبها رجل ما، سيكون حبا صادقا لشخصها، منزوع الأطماع. وكذلك إذا أحبت امرأة رجلا فقيرا، سيكون حبها لذاته، وليس لفلوسه. إن أكبر قلق في حياة إنسانة أو إنسان من الأثرياء، ليس أن يفقد أيهما أمواله. ولكن سؤاله الذي لا يتوقف:

«هل الحب والاهتمام والتبجيل الذي يحيط بى، بسبب ثرائى، أم لذاتى؟».

إذا أردنا الحقيقة والإنصاف، فإن الفقراء لا يحبهم أحد إلا أمهاتهم. يخوضون يوميا حرب وجود، لا ترحمهم، إلا بالفتات الفائض من الأغنياء. كل شىء يعمل ضدهم.

إن ضحايا الفقر في العالم، أكثر من ضحايا الحروب الكبرى التي خاضتها البشرية.

أي حرب مهما تمادت بشاعتها، لها نهاية، إلا حرب الفقراء.

الفقر عار لا يستحى منه العالم. فأغلب الأنظمة تعتبره شيئا طبيعيا في الكون مثل الأشجار والجبال والبحار، أو شيئا موروثا بسبب الجينات الوراثية مثل لون العينين، وطول القامة والاستعداد الوراثى لبعض الأمراض.

والأديان لا تفعل شيئا إلا أن توصى الفقراء بالصبر، والدعاء، فالله رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات، وهو ابتلاء إلهى لاختبار شدة وثبات الإيمان.

ويتأزم حال الفقراء يوما بعد يوم، لأن الحضارة العالمية السائدة، المهيمنة على مجريات الأمور وصنع القرارات ووضع الأولويات، هي الرأسمالية بقيادة أمريكا، والتى يزيد تنمرها وقبضتها الحديدية على العالم. فالعالم لم يعد الشرق والغرب والشمال والجنوب. نحن كلنا تروس، تديرها الآلة الرأسمالية الضخمة، التي لا تشبع، ولا تتوقف شهيتها لحصد الربح، على حساب أي شىء.

حينما نادى الفيلسوف الأمريكى، وليم جيمس ١٨٤٢- ١٩١٠، إلى تبنى الفلسفة العملية، أو «البراجماتية»، لم يتصور ما قد يلحق بأمريكا. لقد فهم المجتمع الأمريكى، البراجماتية، على أنها اللهاث وراء الربح الشره، النجاح المادى، واحتياجات السوق، وجنون الحرب، وفرض الحصار على الشعوب المستضعفة. بينما قصد هو، أن تتقاسم كل الشعوب، التعايش، القائم على التعاون، على المحبة، والعقلانية، والروح الجريئة المغامرة. أو بلغته التي تختصر فلسفته: «عِش ودع الآخرين يعيشوا».

وما يثير اندهاشى وغضبى، أن الأغنياء في كل مكان، متشابهون. فهم لا يستحون من استعراض غناهم، والزهو به.

ويزداد اندهاشى وغضبى، عندما أسمع خطباء الجوامع والمساجد، والمشايخ، ينصحون الشباب المسلم المحروم من الحد الأدنى للحياة الكريمة، بالاستغفار عن ذنوبهم، والتوبة عن خطاياهم، والزهد في متاع الدنيا الفانية الغرورة.

أىّ «ذنوب» يقترفها شاب عاطل يعيش وسط القمامة والحشرات والأمراض؟؟.

عمّ «تستغفر» فتاة لا تجد وظيفة، وتعيش في حجرة واحدة مع عشرة أفراد؟.

ملايين تحت خط الفقر، لا يسمعون إلا فتاوى الاستعداد للموت، وهم محرومون أصلا من فرصة للحياة؟؟.

في بلادنا، إذا رغب شخص مسلم في الحصول على لقب «فاعل خير»، في قريته الفقيرة، التي لا يوجد بها مدرسة أو مستشفى أو مصنع أو وسائل ترفيه، أو عربات لجمع القمامة، أو أىّ مرفق يحسن حال الفقراء، بينما يوجد بها عشرات المساجد المتلاصقة بمكبرات الصوت، فإنه يبنى مسجدا فاخرا للصلاة. وكأن مشكلة فقراء المسلمين في القرية، هي نقص الصلاة. أو كأن بناء مصنع أو مستشفى، ليس من أفعال الخير.

وكم قرأت عن أبناء، حينما مات الأب أو الأم، فإنهم يبنون مسجدا كصدقة جارية، أو يذهب أحدهم للعمرة والحج، بدلا من الأب الراحل، أو الأم الفقيدة. لم أسمع عن شخص يريد لأبيه الراحل الذكرى الحسنة، فبنى مصنعا أو مركزا طبيا باسمه. وإنما يبنى مسجدا.

وفى هذا السياق، أتذكر مقولة دينية شهيرة، كانت ترددها المعلمة في مدرستى، في حصة اللغة العربية، ولا أنساها «لقمة في بطن جائع خير من ألف جامع».

بما أن مبدأ الرأسمالية هو أن «رأس المال أهم من الإنسان»، فإن «المال يستر رذيلة الأغنياء، ويغطى فضيلة الفقراء». ولا أدرى ما النبل الأخلاقى إذا كسبنا المال، وخسرنا الإنسان؟؟.

المال هو كل شىء. وبدونه لا تكون شيئا. المال يقلب المقاييس، ويغير من الأحكام، وينتصر على العادات والعُرف والتقاليد، والأخلاق.. وكما قال أوسكار وايلد (16 أكتوبر 1854- 30 نوفمبر1900): «إن المجتمعات قد تسامح المجرم، لكنها لا تسامح الفقير».

وهو القائل أيضا: «كنت في طفولتى أظن أن المال هو كل شىء.. وعندما كبرت تأكدت من ذلك».

كتب أحمد شوقى (16 أكتوبر 1868- 14 أكتوبر 1932) معبرا أبلغ تعبير عن سطوة المال:

المال حلل كل غير محلل

حتى زواج الشيب بالأبكار

ما زُوجت تلك الفتاة وإنما

بِيع الصبا والحسن بالدينار

المهتمون بالأخلاق حقا، يجب أن يكون شغلهم الشاغل، هو القضاء على الفقر. فالفقر، يدفع الناس لانحرافات لا يرغبونها، وضد طبيعتهم ومبادئهم، وبعد ذلك نعاقبهم على انحرافهم. هم بشر مثل الأغنياء، ومن حقهم التمتع بالحياة، ولو في حدودها الدنيا الكريمة. «لو كان الفقر رجلا لذبحته وقطعته إربا ودفنته».

من الكذب والنفاق المستمر، القول بأن «الفقر ليس عيبا». لكن الأسر ميسورة الحال لا تقبل بأن يتزوج أولادهم وبناتهم من الفقراء، ماذا نسمى هذا؟؟.

ويعبر أرنستو تشى جيفارا (14 يونيو 1928- 9 أكتوبر 1967«اغتيال»)، المناضل العالمى ضد المظلومين والمقهورين والفقراء، بطريقته الساخرة قائلا: «الذى قال إن الفقر ليس عيبا، كان يريد أن يكملها ويقول بل جريمة، ولكن الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحار».

سأل شخص أحد الحكماء، ما هي الموسيقى الحرام؟. فقال الحكيم: «الموسيقى الحرام هي موسيقى ملاعق الأغنياء وهى ترن في أطباق الطعام، وتسمعها آذان الفقراء الجوعى».

■ ■ ■

ختامه شِعر

زمن الأخونة والسلف

وسلطان دولة العمامة

النساء قبل الرجال

سعيدات بفكرة القوامة

العالم ينهار

والحكام منشغلون بالسلطة والزعامة

إنه زمن بول البعير

وإرضاع الكبير

يعالج السرطان والاكتئاب بالحجامة

ينشر ثقافة الموت

نلبس الكمامة

وعلى الدنيا السلامة.

المصري اليوم

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى