كتاب عدن

اللاجئون.. صورة المأساة الإنسانية


مشكلة معقدة ومتعددة الأوجه تتطلب مقاربة شاملة

خالد اليماني

يتهم الاتحاد الأوروبي بيلاروس بتسيس قضية اللاجئين وتحويلهم إلى سلاح لإغراق الدول الأوروبية بحالات من عدم الاستقرار (أ ف ب)

لا يمر يوم من دون أن تباغتنا وسائل الإعلام الدولية بصور من مسلسل مآسي الهجرة واللجوء الإنسانية، سواء تلك التي تحدث قبالة السواحل الإيطالية، والتي تودي بحياة العشرات من المهاجرين غرقاً في مياه المتوسط، أو من يموتون في قوارب الموت التي تعبر القنال الإنجليزي محملة بعشرات المهاجرين، بحثاً عن ملاذ آمن في بريطانيا، وردود فعل السلطات الأوروبية في الإعادة القسرية لهؤلاء الهاربين من ويلات الحروب والاضطهاد إلى ليبيا ورواندا وأوغندا، وهو إجراء اعتبرته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة انتهاكاً للقانون الدولي.

مثل هذه المعاملة التي وصفتها المنظمة الدولية باللاإنسانية حدثت في أستراليا حينما توصلت إلى صفقات تجارية مع بعض الدول الجزرية الصغيرة في المحيط الهادئ، مثل جزيرتي مانوس وناورو، واتهمت المؤسسات الحقوقية الدولية أستراليا باستخدامهما كمكب نفايات للاجئين من ماينمار وإيران وأفغانستان والصومال.

وتحدث هذه المعاملة القاسية في اليونان والدنمارك، فيما لجأت دول أفريقية مثل رواندا وأوغندا إلى عقد صفقات تجارية لاستقبال اللاجئين من أوروبا، وتقوم إيطاليا حالياً بإنشاء معسكرات في ليبيا لاستيعاب اللاجئين الذين تتم إعادتهم من إيطاليا، تحت لافتة “الترحيل الطوعي” أو انتظار إجراءات الهجرة القانونية التي قد تستمر لعشرات السنين.

وفي غابة بيالويزا الواقعة في شمال شرقي بولندا، والمنتشرة على جانبي الحدود البولندية – البيلاروسية، تسمع مكبرات الصوت بمختلف اللغات العربية والصينية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية، وهي تردد خطابها للمهاجرين المتعبين الذين قضوا وقتاً طويلاً يصارعون الموت لاجتياز الغابة الموحشة، بأنهم غير مرحب بهم في بولندا، وأن الحدود مغلقة في وجوههم، وأن هنا تنتهي رحلتهم، وأنهم تعرضوا للغش، وأن أموالهم التي دفعوها للمهربين ضاعت سدى، وأن الأفضل لهم العودة إلى منسك عاصمة بيلاروس، وأن السلطات البيلاروسية معنية بإعادتهم إلى أوطانهم.

يتهم الاتحاد الأوروبي بيلاروس بتسيس قضية اللاجئين وتحويلهم إلى سلاح لإغراق الدول الأوروبية بحالات من عدم الاستقرار، فقد صرح وزيرا خارجية ودفاع إيطاليا أخيراً بأن ميليشيات “فاغنر” الروسية التي تعمل في ليبيا، هي المسؤولة عن التعاون مع عصابات الاتجار بالبشر، لتسهيل نقل اللاجئين إلى السواحل الإيطالية، والذين تضاعفت أعدادهم ثلاث مرات خلال العام الماضي مقارنة بالأعوام السابقة.

تؤكد التصريحات الإيطالية أن الحرب المفتوحة في أوكرانيا بين روسيا والغرب انتقلت لاستثمار معاناة اللاجئين، مثلما حدث ويحدث في الحدود البيلاروسية – البولندية، فيما تتهم الحكومة اليونانية خصمها التاريخي تركيا بتسهيل التعاون مع عصابات الاتجار بالبشر لتوجيه طالبي اللجوء إلى الأراضي اليونانية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن السلطات اليونانية رحلت 25 ألف لاجئ إلى الأراضي التركية.

في 28 فبراير (شباط) الماضي كتبت “اندبندنت” في مقالها الافتتاحي، أن “بعض الحكومات، بما في ذلك الحكومة البريطانية، تسعى بهمة إلى التخلي عن واجب رعاية اللاجئين، وبدلاً من ذلك تشيطن هؤلاء الأشخاص باستخدام عبارات مثل “الغزو” و”المهاجرين غير الشرعيين”، مؤكدة أن هذه لغة خاطئة وعنيفة، وهي تتكرر كثيراً، وتتبناها فوراً الجماعات اليمينية المتطرفة التي شنت حملة كراهية ضد اللاجئين المقيمين بالفنادق في جميع أنحاء البلاد. وأكدت الصحيفة أنه لا يوجد في القانون شيء اسمه “مهاجر غير شرعي” بل هناك حق إنساني عالمي لأي شخص في طلب اللجوء”.

بكائية إنسانية مسكوت عنها

في العام الماضي صدر لي مجموعة قصصية بعنوان “كتاب الشتات اليمني”، تناولت فيها صوراً من معاناة الهجرة واللجوء لليمنيين ممن تقطعت بهم السبل هرباً من الحرب والدمار التي تسببت بها الميليشيات الحوثية وأمراء الحرب في اليمن.

وتتناول المجموعة القصصية حكاية مصطفى الريمي الذي مات في غابة بيالويزا، على الحدود البولندية – البيلاروسية، ودفن إلى جانب أخيه المواطن السوري أحمد الحسن في مقبرة الأقلية التتارية المسلمة في بلدة “بوهونيكي” البولندية الحدودية التي تبعد بستة آلاف و300 كيلومتر عن قريته في محافظة “ريمة” اليمنية.

كما يتناول الكتاب قصص الرعب التي يمر بها الآلاف من طالبي اللجوء في غابات أميركا الوسطى وممرات الهجرة المرعبة وصولاً إلى الحدود الأميركية، وتعرضهم للنهب والقتل وشتى الانتهاكات من قبل عصابات المخدرات والجريمة المنظمة. كذلك قصص الموت على يد خفر السواحل الإسبانية في “سبتة” و”مليلية” الإسبانيتين، حيث يحاول الآلاف من المهاجرين اجتياز السياج الحدودي بين المغرب وإسبانيا لدخول الاتحاد الأوروبي.

وما زالت أخبار الموت المؤسف تتوالى فيما العالم يلتزم الصمت المعيب، وكأن من يموتون ليسوا بشراً، حتى المنظمات غير الحكومية والهيئات الكنسية والناشطين الإنسانيين اللذين يهرعون إلى تقديم يد العون للاجئين في الحدود البولندية يصفهم الرئيس البولندي أندريه دودا “بالأغبياء والخونة”، فيما لا يعتبر الأمر كذلك حينما تقدم حكومته كل الدعم والمساندة للاجئين القادمين من أوكرانيا، ولهذا يعتبر المؤرخ والكاتب الفرنسي جونايفي بوتيل أن “سياسات الهجرة محكومة بالكيل بمكيالين، ليس في بولندا وفرنسا فحسب، لكن في جميع دول الاتحاد الأوروبي، حيث تعمد الدول على التمييز بين هؤلاء المرغوب والمرحب بهم، والذين ينبغي دمجهم، وأولئك الذين لا يستحقون البقاء ويجب إعادتهم من حيث أتوا”.

وبحسب إحصائيات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فإن عدد النازحين واللاجئين في العالم قفز في عام 2022 إلى 103 ملايين شخص مقارنة بـ89.3 مليون شخص في عام 2021، وارتفع عدد اللاجئين وحدهم من 27.12 مليون شخص في 2021، إلى 23.5 مليون شخص منتصف العام الماضي. ويعيش 85 في المئة من اللاجئين في العالم بالبلدان الفقيرة أو متوسطة الدخل التي تفتح أبوابها لمن تقطعت بهم السبل من الدول المجاورة بسبب العنف والاضطرابات والاضطهاد، فهناك 8.5 مليون أفغاني يعيشون في باكستان وإيران وطاجكستان وتركمانستان وأوزبكستان، حيث تزايدت أعداهم كثيراً منذ عودة حركة “طالبان” إلى الحكم في أغسطس (آب) 2021.

كما تتعرض أقلية الروهينغا في ميانمار لأعتى صور المعاناة الإنسانية في سعيها إلى الهرب من الاضطهاد العرقي لتواجه الموت في خليج البنغال، حيث رصت الأمم المتحدة نزوح نصف مليون نسمة خلال العام الماضي هرباً من الاضطهاد العرقي ضد الأقلية الإسلامية في إقليم أراكان، فيما تسببت العمليات العسكرية التي قادها الجيش الإثيوبي في إقليم تيغراي إلى نزوح قرابة المليون نسمة من الإقليم.

وسجلت دولة النيجر وصول 40 ألف وافد من نيجيريا ومالي وبوركينا فاسو، خلال النصف الأول من العام الماضي وهم في طريقهم إلى ممرات اللجوء المتجهة شمالاً عبر الأراضي الليبية والجزائرية والمغربية، إلى أوروبا. وتقول بعض التقارير الصحافية إن بمجرد زيارة هذه البلدان العربية في شمال أفريقيا سيلحظ الزائر الأعداد المتزايدة من مواطني الدول الأفريقية الساعين وراء عصابات الاتجار بالبشر للسفر إلى أوروبا.

غياب الرد الدولي المناسب

على رغم فداحة الوضع الإنساني في موضوع اللجوء والهجرة والنزوح لم ترق معالجات المجتمع الدولي إلى مستوى التحدي الوجودي الذي يتعرض له الملايين من البشر هرباً من الموت المحتوم، فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار.

وفي توصياته أمام مجلس الأمن في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أكد فيليبو غراندي المفوض السامي لشؤون اللاجئين على أربع نقاط لمواجهة أزمة اللجوء والنزوح العالمية، تمثلت في معالجة الفجوة التمويلية للمنظمة الدولية، ومعالجة أوضاع الدول الهشة التي تشكل قوة رفد للظاهرة، والالتزام بالقانون الإنساني لحماية حقوق اللاجئين والنازحين، وتجاوز مجلس الأمن لحال الانقسام والخلاف حينما يتعلق الأمر بموضوع النزوح واللجوء.

قضية اللاجئين مشكلة معقدة ومتعددة الأوجه تتطلب مقاربة شاملة، ربما من خلال الدعوة لعقد مؤتمر دولي أسوة بجولات مؤتمر المناخ، للمعالجة الدورية لواحدة من الظواهر التي تشكل نزعة عالمية ستشهد زيادة ملحوظة في السنوات المقبلة، وهي تحتاج إلى معالجة الأسباب الجذرية وليس الإجراءات الترقيعية لترحيل المشكلة إلى البلدان الأخرى، حيث يفر الملايين من اللاجئين من ديارهم بسبب الصراع والاضطهاد والفقر وغياب حقوقهم الإنسانية البسيطة، ومعالجة الأسباب الجذرية تكمن في حل النزاعات والعمل على تعزيز السلام والاستقرار.

كما تشكل زيادة المساعدات الإنسانية وإدماج اللاجئين في المجتمعات المضيفة والتخلص من سياسات الكيل بمكيالين، ومحاربة التمييز وكراهية الأجانب، وتعزيز التعاون الدولي ضرورة ملحة، فقضية اللاجئين هي قضية عالمية تتطلب استجابة منسقة من المجتمع الدولي، ويجب على الدول أن تعمل معاً لتقاسم عبء استضافة اللاجئين ضمان تلبية حاجاتهم الملحة، وتوفير الحماية والمساعدات لتجمعات النزوح الداخلي في البلدان التي تشهد الهشاشة، والفشل، والصراع كي لا يلجأ الناس إلى الهرب من أوطانهم.

إن أكثر ما يحز بالنفس أن نرى الإنسانية تموت، وهي تتابع غير مكترثة الأخبار الواردة عن موت العشرات في ممرات اللجوء من الجوع والعطش، أو برصاص حرس الحدود، وفي غرق مراكبهم المطاطية المتهالكة في البحار. إن الإنسانية يجب أن تدرك أن أزمة اللاجئين هي أزمة البشرية، وهي قضية معقدة تتطلب نهجاً متعدد الأوجه ومقاربة إنسانية في المقام الأول.

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى