نعيش لنفكر أم لنأكل!
ما دمنا من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فالأرجح أننا كنا ضحايا لتلك الأصوات المثيرة للاشمئزاز للأشخاص “الملهوفين” الذين يلتهمون وجبات كبيرة من الطعام دون توقف.
منحت التطبيقات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي قصص صناعة الطعام والنجاح في فن الطهي قاعدة جماهيرية صلبة، ووضعت الطعام وأذواق الشعوب في صدارة الاهتمام، ومن ثم أحدثت المحتويات البصرية والحسية المخصصة للترويج لكل ما له علاقة بالطعام، تحولات عميقة في مجال صناعة الطعام وكيفية تسويقه.
هذا الفهم المتنامي لتأثير الحواس في عمليات التّسوق والتسويق أصبح صناعة عالمية تدر الملايين من الدولارات في مختلف القطاعات والصناعات، لكن بينما يشيد خبراء الإعلان بمزايا المؤثرات الحسية، انخرطت فئات واسعة من مجتمع الإنترنت في نوبات من الشراهة واستهلاك كميات كبيرة من الأطعمة أمام عدسات الكاميرا، وعلى إيقاع أصوات القرمشة والمضغ والشفت واللحس واللعاب السائل.
هوس تناول الطعام بإفراط أمام العدسات انطلق في البداية بكوريا الجنوبية، ويسمى “موك بانغ”، ويعني تناول الطعام بشراهة، وانتقل بعدها إلى عدد من الدول الأخرى.
ما دمنا من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فالأرجح أننا كنا ضحايا لتلك الأصوات المثيرة للاشمئزاز للأشخاص “الملهوفين” الذين يلتهمون وجبات كبيرة من الطعام دون توقف، أما المصابون بمتلازمة “ميسوفونيا” أو “كراهية الأصوات الفموية” فمن المؤكد أنهم قد أصيبوا بنوبات ذعر وفورات غضب في كل مرة تصفحوا فيها مواقعهم الاجتماعية.
التأثر بالسلوكيات الغذائية غير الصحية قد يحدث أحيانا لا شعوريا، فالبشر لديهم استعداد فطري للاسترشاد بسلوكيات وعادات بعضهم البعض
تبدو المشاهد المنفرة لفيديوهات مآدب الطعام الحافلة التي قد يلتهمها شخص بمفرده، أمرا غريبا ويكاد لا تصدقه الأعين، ولكنه يجرنا إلى الحديث عن تجارب ربما تكون مألوفة لأشخاص نعرفهم عاجزين عن التحكم في مقدار ما يلتهمونه من أطعمة خلال شهر رمضان، حينما يجلسون على الطاولة، بل يحولون وجبة الإفطار في رمضان إلى طقس من الانغماس في الأطعمة الدسمة تمتد من غروب الشمس إلى شروقها.
جميع الكائنات الحية تحتاج إلى الطعام لكي تعيش، ونحن كبشر تربطنا بالطعام علاقة معقدة تساهم فيها مجموعة من العوامل النفسية والجينات والهرمونات، وتحكمها الإمكانيات المالية ومدى وفرة الأغذية، ولكن يظل القاسم المشترك بيننا جميعا هو الشهية، كأن يمتلك شخص ما القدرة على تناول خروف بأكمله أو وليمة لعشرة أشخاص، فيما يكتفي شخص آخر بقدر بسيط من الطعام فيشعر بالرضا والشبع.
التأثر بالسلوكيات الغذائية غير الصحية قد يحدث أحيانا لا شعوريا، فالبشر لديهم استعداد فطري للاسترشاد بسلوكيات وعادات بعضهم البعض، خصوصا من يشاركونهم الطعام، حتى إن الكثير من الدراسات توصلت إلى أن الكثيرين يتناولون كميات أكبر من الأطعمة عندما يكونون بصحبة أصدقاء يتصفون بالشراهة. لكنهم قد يعزون إقبالهم الكبير على تناول الطعام إلى المذاق أو السعر أو الجوع، ولا يدركون أن السبب الحقيقي هو تلك الصحبة، التي من شأنها أن تعيق القدرة على تمييز علامات الجوع من الشبع، فيما تدفع الرغبة في محاكاة الأصدقاء إلى تناول المزيد من الأطعمة.
هذا الأمر يُظهر أنه عندما نحدد كمية الطعام التي يجب علينا تناولها، فإننا لا نتخذ هذا القرار بناء على إشارات الهرمونات بشأن كمية الطعام الموجودة في المعدة، ولكن أيضا بناء على مثيرات خارجية من البيئات المحيطة بنا والتي قد تغرينا لتناول الطعام بنهم.
يمكن لمواقع التواصل الاجتماعي اليوم أن تؤدي دورا رئيسيا في خلق مثل هذا النوع من الهوس بالأكل أكثر من اللازم، بفضل ما أصبح متاحا على فضاءاتها من أناس ملهوفين على الطعام ولا هم لهم سوى إشباع بطونهم، والأسوأ من هذا كله أن البعض منهم يساهم في خلق شبكات اجتماعية أوسع نطاقا تشترك في نفس العادة السيئة وتعمل سوية على نشرها على نطاق واسع.
من السهل أن يكتسب المرء هذه العادات الغذائية السيئة، لكن يصعب عليه التخلص منها، وهذه العادات تجعله شبيها بالكلب لا يحلم إلا بالطعام.
يمينة حمدي
صحافية تونسية مقيمة في لندن