مقالات

تصفير قضايا المنطقة والساحات الخلفية

محمد حميدة

دفعت منطقة الشرق الأوسط وعموم الدول العربية فاتورة باهظة طوال السنوات التي أعقبت الثورات العربية العام 2011، والتي تحولت بعضها لساحات خلفية، لتصفية حسابات ومؤامرات وسيناريوهات عدة، لا مجال للاستغراق في تفاصيلها الآن. لكن التحولات الجيوستراتيجية الحالية على الساحة الدولية منحت المنطقة قدرا أكبر في حيز التحولات، ما بين الشرق والغرب، وفرصة غير مسبوقة في لعب دور تاريخي يمكنه تغيير ملامح المنطقة الباهتة منذ فترة.

في استحضارنا سريعا للتاريخ، كانت المنطقة العربية محط أنظار القوى الاستعمارية القديمة منذ سيطرة الإمبراطورية الرومانية على الشرق الأوسط، ومرورا بالتحولات التي جرت فيما بعد وفترات دخول الإسلام، وصولا للمغول والعثمانيين، وسيطرة البريطانيون على الخليج العربي، وتوسيع الفرنسيون نفوذهم في لبنان وسوريا ومصر وشمال إفريقيا، واستيلاء إيطاليا على ليبيا وتقاسم إسبانيا النفوذ مع فرنسا في دول المغرب العربي.


قبل الانتقال للتطورات الحالية اعتقد أنه لابد من التذكير بأن اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط الذي كان محدودا قبل الحرب العالمية الأولى، بدأ بصورة مغايرة تماما لما هو عليه الآن، حينما أسس الرئيس الأمريكي آندرو جاكسون علاقات رسمية مع سلطان مسقط وعمان عام 1833، أملا في إعادة ميزان القوى إلى المنطقة بعد هيمنة بريطانيا عليها، ومن ثم انطلقت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وبلاد فارس عام 1857، وبدت الأولى حينها محبوبة للمنطقة بعد جلبها للأطباء ومهندسي النفط الماهرين، هذا الاهتمام فسر عبر اتفاقية الخط الأحمر الموقعة عام 1928 واتفاقية النفط الأنجلو–أمريكية الموقعة عام 1944، حيث تأكد من خلالهما أهداف الولايات المتحدة بالسيطرة على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط، وهو ما ارتبط لاحقا باحتلال العراق وتدمير ليبيا في 2011.


طيلة هذه العقود ظلت المنطقة تدفع فاتورة تلو الأخرى، حتى بعد الاستقلال، إذ ظلت الدول رهينة للسياسات الاستعمارية التي رحلت وبقى تأثيرها في القرار السياسي وحتى في الخلافات القائمة بين الدول العربية.

ظلت أثار 2011 ممتدة في العديد من الدول العربية حتى اليوم، في المقدمة منها سوريا وليبيا واليمن، فيما استطاعت مصر والبحرين وتونس والجزائر والمغرب والعراق تجاوز الموجات الثورية بفاتورة باهظة، وصولا لنقطة بداية التحولات الجيوستراتيجية على مستوى العالم.

في 24 فبراير 2022، انطلقت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ورغم بعدها الجغرافي عن الشرق الأوسط، لكنها ألقت بظلالها سريعا على المنطقة، التي أصبحت مقصدا لزعماء العالم، بهدف التأثير على مواقفها، وهو ما برهن على أهميتها وقوتها التي توارت خلال عقود مضت، وقدر لها الحضور مجددا.


يمكننا الجزم بأن المواقف العربية من التحولات الحالية لم تكن عشوائية، بل كانت مدروسة ونتيجة لتراكمات عديدة، ومخاض طويل، وهنا أذكر ما أعلنته الجامعة العربية في مارس 2022، حيث كشفت بشكل واضح عن موقفها من الأزمة في أوكرانيا، وحينها أكد الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط “أن المبدأ الحاكم سيظل دائما المصلحة الوطنية، والمصلحة العربية عموما.

متابعا حينها أن “صراعات القوى العالمية الكبرى سوف تضع ضغوطا علينا جميعا، وسوف تحمل بعض شعوبنا قدرا من المعاناة، وعلينا أن نكون مستعدين للدفاع عن مصالحنا واتخاذ المواقف التي تخدم أهدافنا”.

تابعت حينها كلمة أبو الغيط باهتمام بالغ أثناء الجلسة، ووجدت فيها قراءة جادة وواعية لما سيترتب على التحولات المرتقبة “حينها”، وهو ما تجلى سريعا عبر الزيارات المتعددة لمنطقة الخليج والقاهرة ودول المغرب العربي، وكذلك محاولات التأثير الغربي على الخليج عبر “أوبك +”، محاولة الاستفادة منها لصالح القرار الغربي، لكن مواقف دول المنظمة وفي مقدمتها السعودية بنيت على أساس المصالح الوطنية والعربية والقواعد المعمول بها، ما اعتبره الغرب خروجا عن المسار الذي وضع فيه المنطقة لعقود، في المقابل تحركت الصين سريعا والتقطت روسيا الإشارة أيضا وعززت تواصلها مع الدول العربية التي بدأته في أوقات سابقة بالتوازي مع الصين، بعد أن تراجع حضور واشنطن في المنطقة تدريجيا منذ وصول بايدن، ومواقف إدارته من السعودية تحديدا.


كل ما سبق منذ بداية الأزمة في أوكرانيا كان يؤشر لبدء مرحلة جديدة على صعيد التوازنات العالمية، وبدا ذلك واضحا في القمة الصينية العربية في الرياض بالمقارنة مع قمة بايدن في نفس العاصمة، وفي الاختراق الاستراتيجي الذي حققته بكين بشأن الاتفاق بين الرياض وطهران، وهو اعتبر البداية لتصفير أزمات الشرق الأوسط، وهي النقطة الأهم في مسار المنطقة من حيث التوقيت والمسار.

الوصول لنقطة حضور الصين السياسي بالمنطقة، يدفعنا مباشرة للتفكير في حجم الصراع المحتمل في “الساحات الخلفية” إذا بقيت مشتعلة، فرغم استمرار أزمات العديد من الدول منذ العام 2011، لكن نقطة المواجهة التي وصلت لها القوى العالمية في الوقت الراهن، كانت تتجه نحو ساحة الأزمات في المنطقة باعتبارها “ساحات صراع خلفية” يسعى من خلالها الغرب لعدم تركها للصين وروسيا باعتبارها مناطقه التاريخية. فيما تسعى الصين لتنفيذ مشروعها الاقتصادي وتعزيز حضورها السياسي، وهو الهدف ذاته بالنسبة لروسيا اقتصاديا وسياسيا، الأمر الذي كان سيدخل كل من سوريا واليمن وليبيا وربما بعض الدول الأخرى لمناطق أكثر سخونة واستقطابا، لكن ربما جاءت الخطوة الصينية برعاية الاتفاق التاريخي بين السعودية وإيران قاطعة الطريق على سيناريو “الساحات الخلفية”، الحلقة الجديدة التي كانت تعد للمنطقة العربية بالكامل، خاصة في ظل حضور القوى المتصارعة في جميع ملفاتها بصورة مباشرة وغير مباشرة.

ربما تكون الفرصة الحالية للمنطقة تاريخية لكن من المهم استحضار صورة قدوم الولايات المتحدة الأمريكية للشرق الأوسط والتي بدت حينها بصورة محبوبة لشعوب المنطقة، خاصة بعد أن رفضت المشاركة في أي انتداب للمنطقة الذي شكلته بريطانيا وفرنسا على الدول بموجب عصبة الأمم، بعد الاستيلاء عليها، وهو ما شجع دول المنطقة إلى التعاون الكبير معها حينها. ما يعني أن التعاون مع الدول الكبرى التي تحضر للمنطقة الآن لسد لإعادة موازين القوى لا يجب أن يكرر نفس الأخطاء التي ارتكبت في التعاون مع واشنطن سابقا.

الخلاصة.

أقلمة القضايا
يجب أن تدرك دول المنطقة أن “أقلمة القضايا” وتحقيق معادلة الأمن والاستقرار لا يتوفر عبر العلاقات القوية مع القوى العالمية فقط، لكنه يتساوى في نفس الوقت مع جزئين آخرين، الأول منهما عبر الأمن الداخلي والأمن الإقليمي (علاقات الدول في الإقليمي ببعضها البعض)، ما يعني أن معادلة السلام والحرب تتوفر بشكل أكبر انطلاقا من الدول الجارة والإقليم، بحيث تدرك إيران أن الاتفاقيات مع الغرب وواشنطن ليست هي من تحقق لها معادلة الأمن، وكذلك دول الخليج، والعمل على الانطلاق من المحلي نحو الإقليمي، وهو المسار الأسلم.

أيضا يمكن القول بأن تصفير أزمات المنطقة بات مهمة ذات أولوية قصوى يجب إنجازها في أدق وقت ممكن، انطلاقا من حل الأزمة في اليمن، والعمل على توحيد صفوفه، وكذلك في سوريا ودعم السيادة على كامل أراضيها، وتوحيد الجهود في ليبيا وطنيا دون الانصياع لاستراتيجيات عشرية أو خمسية أجنبية، وتصفير الأزمة المتعلقة بقضية الصحراء المغربية لما يمكن أن تحمله من تداعيات، ودعم عودة العراق لمكانته المستحقة، وتنسيق الجهود والمواقف لتحقيق أقصى استفادة وطنية وقومية من التحولات الجيوستراتيجية الجديدة والتي ستمر بمخاض عسير، ما بين التوازنات مع الصين التي حضرت للمنطقة بقوة، وروسيا التي أطلقت شرارة تغيير موازين القوى، والمصالح مع الغرب التي لا يمكن أن تنقطع بحكم تاريخها وتشابكها الكبير والارتباط الوثيق بالمنطقة، لكن يجب أن تعاد هندستها، وهو ما يحتاج لحسابات دقيقة ومواقف عربية متناغمة ومتفاهمة بما يؤسس لقوة الشرق الأوسط الجديد، بدلا من سيناريو “الشرق الأوسط الجديد” الذي كان الهدف منه تقسيم المنطقة لدويلات صغيرة.24

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى