لهذه الأسباب نحب مصر
د.ثابت الأحمدي
لماذا يحب اليمنيون مصر؟ ولماذا لم ينسوا جمال عبدالناصر حتى اليوم؟
لن أجيب أنا. سأستعير هنا قلم المؤرخ اليمني المعروف الأستاذ الدكتور أحمد قايد الصايدي، فقد أفاد وأجاد، وشعرتُ وكأنه كتب بقلمي، أو أني كتبتُ بقلمه. يقول:
“مع تدفق وحدات من الجيش المصري إلى اليمن، تدفق جيشٌ آخر من الخبراء الإداريين والاقتصاديين والتربويين والإعلاميين والرياضيين، وغيرهم. وكانت مهمة هذا الجيش المدني الموازي مهمة حضارية، وهي بناء الدولة الحديثة، بمؤسساتها المختلفة ونشر التعليم الحديث، وإرساء قاعدة اقتصادية وتنموية حديثة، بما في ذلك إنشاء البنوك، واستبدال العملة القديمة، وتنشيط التبادل التجاري مع الخارج، ورفع الحواجز الجمركية في الداخل.
وبفضل هذا الجيش المدني أمكن البدء في تحديث اليمن، وتشكيل نواة دولته الحديثة، ويمكن أن نوجز أبرز ملامح التحديث وبناء الدولة فيما يلي:
ففي مجال الإدارة تم وضع الهياكل الإدارية لأجهزة الدولة ووضع الأنظمة واللوائح، وتوصيف الوظائف وتحديد الصلاحيات وتأهيل الكوادر الإدارية اليمنية في كل الوزارات والمؤسسات والمصالح الحكومية، لتتولى العمل بنفسها، تحت إشراف وتوجيه خبراء الإدارة المصريين.
وفي مجال الاقتصاد أنشئ البنك اليمني للإنشاء والتعمير بخبرات مصرية، وسمح لبعض البنوك الخارجية بفتح فروع لها في اليمن، وطبعت عُملة ورقية بدلا من العملة الفضية “ريال ماريا تريزا” التي ظل اليمن يستوردها ويستخدمها لما يزيد على قرنين من الزمن، ولم تكن عملة عملية بسبب وزنها الثقيل وصعوبة حملها، وقلة ما هو معروض منها في السوق، مما شكل عائقا أمام الحركة التجارية وحال دون انسياب المعاملات المالية. كما نشطت الحركة التجارية بفعل الحراك الجديد في المجتمع واتساع دائرة التوظيف في أجهزة الدولة، بما يعنيه ذلك من توفر السيولة اللازمة وارتفاع القدرة الشرائية لدى المواطنين، وتم ضبط حركة التبادل التجاري مع الخارج من خلال وزارة التجارة وتطوير قدرات الإدارة الجمركية.
وفي مجال التربية والتعليم استقدم المصريون آلاف الأساتذة والخبراء التربويين، وأنشأوا المدارس الحديثة وتوسعوا فيها ونقلوا تجربة الثورة المصرية في جعل التعليم مجانيا وحقا لكل طفل يمني، فانتشرت المدارس في المدن، وفي مختلف المحافظات، ووصلت بعض المناطق إلى الأرياف، وكان المنهج مصريا والكتاب مصريا والأستاذ مصريا.
وفي مجال الإعلام استقدم المصريون مذيعين وصحفيين وخبراء إعلاميين تولوا إصدار الصحف وتحديث إذاعة صنعاء، ولما كانت إذاعة صنعاء في عهد الإمام بدائية في إمكانياتها ومحدودة الإرسال من حيث الزمن ومن حيث المدى فقد أهدت مصر لليمن في الأشهر الأولى من قيام الثورة محطة إذاعية حديثة متكاملة مع مديريها وخبرائها ومهندسيها، مما مكن إذاعة صنعاء من إيصال صوت اليمن إلى مدى أوسع داخل اليمن وخارجه، كما مكنها من البث طوال النهار وساعات الليل.
وفي مجال الدفاع والأمن أنشأ المصريون وحدات عسكرية جديدة في مختلف الصنوف وفتحت مصر كلياتها ومدارسها العسكرية لشباب اليمن، وتمكنت خلال فترة قصيرة من تكوين نواة جيش يمني حديث، بهيكلته وتسليحه ومعداته وأنظمته، كما أنشأت جهاز أمن يمني حديث.
وفي مجال الرياضة استقدم المصريون مدربين رياضيين يتولون تدريب طلاب المدارس وتدريب الفرق الرياضية، وينظمون دورات الألعاب الرياضية ويشرفون عليها.
ولم تمض خمس سنوات من عمر الثورة حتى كان اليمن قد وضع قدميه على عتبات العصر الحديث بفضل جهود الأخوة المصريين، وموقف الثورة المصرية وقائدها جمال عبدالناصر. كل هذا مع استمرار المعارك في كل جبهات القتال.. لقد انتهى الدور العسكري المصري وقد تنساه الذاكرة الجمعية مع توالي الأجيال وتعاقب الزمن؛ أما الدور الحضاري فلا أظنه سيُنسى..”.