مقالات

لبنان وطائفية التوقيت




مصطفى النعمان
كنت وكثيرون من محبي هذا البلد نبحث عن سبب جفاف جذور عبقريته التي تمكنت في الماضي من مساعدته على مقاومة الاهتزازات التي تعرضت لها عواصم عربية عدة”

حين غادرت لبنان في آخر زيارة قمت بها إلى ذلك البلد الجميل نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) 2019، تبقى معي مبلغ من العملة اللبنانية 150 ألف ليرة، أي ما كان يساوي حينها 100 دولار أميركي، احتفظت به لأني كنت على موعد للعودة بعد أسابيع قليلة، لكن القيود التي رافقت انتشار وباء كورونا أوقفت الحركة نهائياً في كل انحاء العالم وتوقفت الرحلات من وإلى كل البلدان وكانت النتيجة وقوع انهيارات اقتصادية وإفلاس لملايين الأنشطة التجارية التي لم تستثن أي بلد على امتداد الكرة الأرضية.

كنت أتابع بدهشة واستغراب وسخرية هبوط سعر الـ 150 ألف ليرة إلى مستويات فلكية وتحول الأمر إلى هزل حزين، وأخيراً تمكنت قبل أيام من زيارة بيروت وعند وصولي كانت قيمة المبلغ ما يقترب من دولار ونصف الدولار، أي إني خسرت أكثر من 95 في المئة من قيمة العملة التي احتفظت بها.

بعد وصولي مباشرة خرجت مشياً على الأقدام إلى أماكن كانت يوماً تعج بالزوار والمتنزهين والمتبضعين والباحثين عن آخر ما تخرج دور النشر اللبنانية، وحرصت أن أقترب فوراً من مرفأ بيروت لأتأمل موقع الانفجار الذي هز لبنان ودمر صوامع الغلال التي يعتمد عليها اللبنانيون في حياتهم اليومية وراح ضحيته العشرات وجرح المئات وتعرضت مبان قريبة للدمار، وتأثرت أخرى بعيدة، وتناثر الحطام في كل المحيط. وكما هي العادة في لبنان المبتلى بنظامه الطائفي المقيت لم يتمكن المحققون المحليون والدوليون من مواصلة بحثهم عن المتسبب وتبادل الكل اتهام الكل، أو كما كان شعار المحتجون يقول “كلن يعني كلن”.

كان المشهد محزن للغاية، إذ رغم كل الإصلاحات التي طالت كثيراً من المنشآت القريبة من موقع الانفجار، لكن مسحة الحزن والقلق كانت واضحة على وجه من نظرت إلى وجوههم وكأنهم ينتظرون انفجاراً هنا أو دماراً هناك، ولا يعلمون متى سيأتي الجاني الذي يتربص بهم في كل زاوية من زوايا لبنان الذي عرفته لأول مرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 بعد خروج والدي من السجن الحربي في مصر، واختياره لبنان مستقراً له ولنا لأنه البلد الذي كان ملجاً لكل باحث عن الأمان والحرية والهدوء والطبيعة الخلابة والمواطنين المسالمين.

قبل وصولي كنت وكثيرون من محبي لبنان نبحث عن سبب جفاف جذور عبقرية هذا البلد، التي تمكنت في الماضي من مساعدته على مقاومة الاهتزازات التي تعرض لها وعمت عواصم كثيرة في العالم العربي، وما زلنا نشاهد بعضها كل يوم، كما استطاع اللبنانيون في السابق التصدي لكل محاولات تمزيق نسيجهم الاجتماعي الذي ظل متماسكاً على رغم العواصف والأعاصير التي أراد حاسدوه اقتلاع كل جذور التسامح والتعايش والسلم الاجتماعي.

ولعل الجواب هو أن القيادات التي حكمته قبل الحرب الأهلية كان يقينها راسخ بأن لبنان لا يعيش إلا بتنوعه الديني والثقافي والسياسي، ولا يمكن أن يبقى حياً مزدهراً ومزاراً لكل باحث عن نسيم الحرية إلا بتشبث أهله بحق الاختلاف والتعامل معه بالحوار والحوار فقط، وجاهدت تلك القيادات لحماية مقومات وطنها والدفاع عنها وحمايتها من العابثين، وكانت مصلحة لبنان هي التي تتقدم على كل ما عداها، إلى أن تسلل القتلة وتجار الحروب إلى صدارة المشهد والتحكم بتفاصيله، فمهدوا السبيل للأيادي الخارجية التي انتزعت كل السياج الذي كان الحماية الحقيقية لوحدته وخط الدفاع عنه.

في هذه الزيارة أسعدني الحظ أن صديقي العزيز الإعلامي المرموق الأستاذ جورج سمعان كان موجوداً في لبنان وتفضل بدعوتي لزيارته في منزله الجميل بمنطقة الرابية المغروس وسط تلة ممتلئة بالأشجار ومحاط بمنازل تحمل نكهة المعمار اللبناني ومذاق ساكنيها. كان الحاضرون أصدقاء له من سفراء لبنان السابقين ومجموعة من الإعلاميين اللامعين والمعروفين لبنانياً وعربياً، وبطبيعة الحال كان الاتفاق السعودي – الإيراني (اتفاق بكين) محور أغلب الحديث وتأثيراته في الأوضاع تحديداً في لبنان واليمن وسوريا والعراق، واتفق الجميع على أهمية الاتفاق وأسبابه الموضوعية بينما كان السؤال الذي تكرر هو عن مدى جدية ورغبة إيران في التعامل الايجابي مع الاتفاق والالتزام بما يكفل تحقق انفراج تحتاجه المنطقة كلها.

ولأنه لبنان الذي صار يعيش في غياب شخصيات تحمل هم المواطنين وتسعى لخدمتهم، ولأنه البلد الذي تفتعل الأزمات فيه لتضيف مزيداً من النيران والاحتقانات، ولأنه الوطن الذي لا يعني استقراره أغلب قياداته طالما كانت مصالحهم الشخصية المتضخمة هي معيار انتمائهم له، فلكل هذا اتخذ قرار غير مفهوم بتغيير التوقيت فجأة ودون مشاورات إدارية ولا تهيئة اجتماعية فتحول الأمر إلى معركة بعيدة كل البعد من الاختلاف الإداري والارتباك الذي أنجزه، إلى سجال طائفي وقعت الحكومة الهشة أصلاً في فخه، وصار رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي هو الهدف الذي يتلقى الاتهامات من كل الأطراف السياسية ومن المرجعيات الدينية التي اقتحمت ميدان الجدل محتجةً ومتوعدة.

ثم جاء رد الفعل المتهور الذي أطلقه جبران باسيل زعيم “التيار الوطني الحر” متحدثاً بلغة طائفية متهماً الذين أيدوا القرار بأنهم “متخلفون”، والواقع أن استخدام هذه الصفة لا يليق بشخصية عامة تهيئ نفسها للمنافسة على منصب الرئاسة الأولى في بلدها، وما كان يليق به حتى التلميح بها لأنه بذلك يرفع من سخونة المناخ السياسي الملتهب أصلاً نتيجة النزاعات السياسية التي صارت زاداً يومياً في التلفزيون والصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي.

لبنان المدهش منشغل بقصة التوقيت وكثير من قياداته تتجاهل متعمدة أن في البلد فقر وخوف وعجز عن تدبير معيشة الناس، وأصبح تقديم الساعة أو تأخيرها هو عنوان فاضح لعجز الطبقة السياسية وتخلفها الوطني وانشغالها المفرط لاستغلال أي قضية لترفع من رصيدها الطائفي.

قبل مغادرة البلد الذي أحب أخذني صديقي الأستاذ جورج سمعان لزيارة أحد أصدقائه من القيادات السياسية المهمة في لبنان والصدق يقتضي مني القول إنني سمعت منه شكواه وحيرته وما خلاصته أن البلد مبتلى بقيادات أحكمت الخناق على المواطنين وانشغلت بقضايا هامشية وغير منتجة متجاهلين مشكلات الناس الحقيقية والعاجلة.

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى