خواطر على هامش بيان بكين
د.عيدروس النقيب
تصالحت الدولتان المسلمتان الجارتان الكبيرتان في المنطقة (إيران والسعودية) بموجب بيان بكين الذي كان للوساطة الصينية دورا كبيرا في التوصل إليه، ويُعتَقَد أن هذا البيان قد يضع حداً للعداء الذي تتعدد أسبابه لكن أهمها فلسفة تصدير الثورة التي انتهجها نظام الملالي في إيران منذ أيامه الأولى قبل 4 عقود والعبث بأمن واستقرار دول الجوار وزراعة الأذرع الإيرانية حيثما تيسر لها ذلك.
* من السابق لأوانه الخوض في تفاصيل الاتفاق الموقع بين الدولتين لكن المؤكد أن انعكاساتٍ كبيرة ستترك آثارتها على مجمل المعادلات السياسية في المنطقة، وأخص هنا الحرب اليمنية التي بلغت عامها الثامن وقريبا ستدلف إلى عامها التاسع.
وفي ضوء ذلك فإنه من المبكر الحديث عن مدى انعكاسات هذا الاتفاق على الأزمة اليمنية، لكن هذا الاتفاق لن يمر دون ترك أثر معين على الأزمة، بغض الظزر عمن سيكون الرابح ومن سيكون الخاسر، أو بالأصح عن حصة كل من الطرفين من الربح أو الخسارة بيد إن المؤكد إنه في حالة وقف الحرب والذهاب باتجاه الحل النهائي فإن الجميع سيكون كاسباً إذا ما خلصت النيات.
* لكن ماذا عن الجنوب والقضية الجنوبية؟؟
بدأ المستعجلون على نشر الشائعات وزراعة البلبلة بالحديث عن سيناريوهات من صنع أخيلتهم على طريقة قال لي فلان وحدثني علان، من قبيل إن القضية الجنوبية قد تم الإجهاز عليها، أو إن الجنوبيين سيتم تخييرهم بين تسليم المرتبات مقابل بيع القضية أو الرفض والموت جوعاً وما إلى ذلك من خربشات الصبية وعبث المراهقين.
من المهم إن يدرك كل ذي معرفة ولو بدائية بالأمور السياسية أن القاعدة الأساسية في العلاقات بين الدول تقوم على الندية والودية والاحترام المتبادل للمصالح بين الشعوب وعدم التدخل من اي طرف في الشؤون الداخلية للطرف الثاني ، وما الحرب والنزاعات والعداء بين الدول والشعوب والأنظمة إلّا حالات استثنائية ولا ينبغي أن تكون أموراً دائمة، ومن هذا المنطلق فكل عاقل ناهيك عن كل صديق وشقيق للأشقاء في المملكة العربية السعودية لا بد أن يرحب باتفاق بكين لعودة العلاقات بين البلدين.
وتأثير عودة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية لا ينعكس فقط على مصالح البلدين والشعبين بل إن هذا التأثير يمتد إلى جميع الأطراف التي تربطها علاقة بالبلدين وعلى وجه الخصوص حيت التأثير الواضح للأذرع الإيرانية التي وضعت المملكة العربية السعودية وشركاءها في موقع العدو المستهدف، ومن هنا تأتي علاقة اتفاق بكين واحتماليات تأثيره على الأزمة في اليمن.
* لم تتضح بعد تفاصيل ما يمكن أن يكون اتفاق بكين قد تضمنه بخصوص مناطق النزاع ومنها اليمن، لكن على كل من يتابع المشهد أن يؤمن بأن الطرفين (أعني السعودية وإيران) يدركان حجم التعقيدات المركبة في الأزمة اليمنية.
فهذه الأزمة ليست فقط معركة بين أنصار إيران وأنصار السعودية، وهذان الطرفان الإقليميان لا يتحكمان وحدهما بمطالب ومواقف أطراف الصراع، كما إن تعدد الثنائيات في الحالة اليمنية يجعل الحديث عن ارتباط حل الأزمة بمجرد بيان من دولتين جارتين نوعاً من التسطيح والتبسيط لواحدة من أكثر الأزمات تعقيدا في العصر الراهن.
فثنائيات الشرعية والانقلاب، التي لا أدري ماذا سيسميها الأشقاء بعد البيان، وثنائية الشمال والجنوب، وثنائية الوحدة واستعادة الدولتين، وغيرها لكل منها تعقيداتها وظروفها ووسائل معالجتها، ومن ينكر هذا أو يتنكر له فهو إما جاهل بحقائق الأمور أو مكابر بلا معنى ولا فهم للتعقيدات الكامنة وراء كل هذه الثنائيات.
* وبالعودة إلى موضوع القضية الجنوبية وتأثرها وتأثيرها على بيان بكين هناك مجموعة من الحقائق لا بد لكل من يتعاطى مع هذه القضية كتابةً أو تعليقاً أو مساهمةً في محاولة الحل أو دعماً ومساندةً لأي من أطراف الصراع أو حتى للحلول السلمية، أن يأخذها بعين الاعتبار وأهم هذه الحقائق:
1. إن القضية الجنوبية ليست قضية حزب أو كيان سياسي محدد ولكنها قضية الشعب الجنوبي بسواده الأعظم، وإن الشعب الجنوبي وبقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي وشركائه من القوى السياسية الجنوبية هم من يمثل الشعب الجنوبي في صناعة لقرار النهائي المتعلق بالحل النهائي للقضية وأية مساهمة لأي طرف شقيق أو صديق لا بد أن تعبر عن تطلع هذا الشعب وتنسجم معه.
2. إن الشعب الجنوبي قد حدد خياره النهائي منذ العام 2007م بل ومنذ الواحد والعشرين من مايو 1994م وهو خيار استعادة الدولة الجنوبية بحدود الواحد والعشرين من مايو 1990م ولن يقبل الشعب الجنوبي بأقل من هذا، فضلاً عن مطالب التعويضات التي من حق الجنوبيين أن يتمسكوا بها سواءً تلك التعويضات المتعلقة بحقوق شهداء وجرحى الثورة الجنوبية السلمية وضحايا العدوانين الأول والثاني أو التعويضات عن الدمار الذي تعرض له الجنوب طيلة 30 عاما خلت، أو تعويض الممتلكات والوظائف والمنهوبات الشخصية أو العبث بالثروة الوطنية الجنوبية وما تعرضت له من نهب وسلب منذ العام 1994م.
3. إن الشعب الجنوبي وقيادته وثورته السلمية التي أشعل شمعتها الأولى في العام 2007 لم يكن مُحَرَّضاً من أحد ولم تكن ثورته السلمية صنيعة أحد وإنما صنعتها العذابات التي تعرض لها على مدى فترة ما بعد الغزو والاجتياح والاحتلال، وإذ تمكنت هذه الثورة بعد الغزو الثاني من دحر تحالف ذلك الغزو وما تبقى من غزاة 1994م بالدعم والمساندة الأخويين من قبل الأشقاء في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، فإنه (أي الشعب الجنوبي) لن يقبل بأقل من استعادة دولته بحدودها ومكانتها المعروفة والمعترف بها دوليا طيلة ربع قرن ما قبل خطيئة 22 مايو 90 وجريمة 7/7/1994م.
4. إن أي حلول لأزمة صراع (الشرعية-الانقلاب) تنتقص من حق الشعب الجنوبي في استعادة دولته واختيار طريق مستقبله الحر والمستقل لن تنحصر انعكاساتها السلبية على حياة الشعب الجنوبي ومستقبله ولكن آثارها ستمتد إلى أكثر من مجرد الجغرافيا الجنوبية وسيتأثر سلبا بهذه الانعكاسات المخاصمون وحتى المتعاطفون مع قضية شعب الجنوب إن هم قبلوا بتمرير تلك الحلول الترقيعية المتصادمة مع إرادة هذا الشعب الأبي الصابر والمثابر الجسور.
* إن ما يميز قضية شعب الجنوب يكمن في أنها تعبر عن شعب ودولة وأرض وهوية وتاريخ وثقافة وتراث إنساني يمتد لمئات السنين، وأن لها حامل سياسي تلتف حوله الملايين من الجنوبيين الذين لن يتراجعوا قيد أنملة عن مطلبهم الأساسي وهو استعادة دولتهم التي أسقطت بالحروب العدوانية بعد دخولها في اتحاد طوعي مع جارتها الشمالية، وقد بينت معركة الشعب الجنوبي في العام 2015م ودحره لتحالف الغزاة المسلحين في أقل من مائة يوم أن أية محاولة للقفز على مطالب وتطلعات وأهداف هذا الشعب هي أشبه بالقفز في المجهول أو أقرب إلى محاولة شطب الحقيقة الناصعة البياض والوضوح من دفتر التاريخ الخالد.
* * *
أما قضية العلاقة بين الدولتين الشقيقتين المستقبليتين في الشمال والجنوب وأهمية انتقال التعامل فيها إلى ضوابط ومعايير جديدة فهذا ما سأتوقف عنده في منشور قادم بإذنه تعالى.