الاقتصاد اليمني وتحدياته العاصفة
الحديث عن مشاكل الاقتصاد اليمني الهش التي تزداد تفاقما وأسبابها -عدا الحرب طبعا- تبدو مثل جبل جليد عظيم لا يبرز منه إلا النزر اليسير، بينما تختفي كثير من حقائق هذا التردي الذي تتعاظم معه معاناة اليمنيين غير قابلة للنقاش، أو لا يحبذ كثير من الخبراء والعارفين الغوص في أعماقها المظلمة التي تشبه إلى حد كبير الـ”دارك ويب” الذي يعج بالأعمال غير المشروعة والعصابات الإجرامية التي تمارس نشاطها بعيدا عن أعين الرقابة الحكومية والشعبية.
هكذا يبدو الاقتصاد اليمني في ظل الحرب، حيث ينمو جيل جديد من رموز الاقتصاد السفلي أو اقتصاد الحرب الذي بقدر ما تنمو ثرواته، يزداد اليمنيون فقرا وبؤسا وعذابا.
وإذا كان الفساد وغياب الرقابة هما السمة التي ترافق اقتصاد أي حرب، فنستطيع أن نقول إن الفساد الذي يشوب المنظومة الاقتصادية والمالية في اليمن، تجاوز حدود ما هو معقول في اقتصاديات الحرب وتجاوز حتى نطاقه المحلي، ليصبح لطخة سوداء كبيرة، تطال حتى المنظمات الإنسانية ومنظمات الإغاثة الأممية التي باتت جزءا من منظومة الفساد أكثر من كونها جزءا من آلية العمل الإنساني.
ولست هنا بصدد التطرق لقضية الفساد بحد ذاتها، فهناك عشرات من الملفات المتخمة بالمعلومات والوثائق التي تسرب بعضها لأروقة الصحافة المحلية والدولية، وهناك كثير من التقارير التي سلطت الضوء على بقعة صغيرة في محيط الفساد المتلاطم الذي فاقم من معاناة اليمنيين وعمق من فاقتهم.
وليس جديدا الحديث عن اقتصاد الحرب الضخم الذي نشأ في اليمن منذ العام 2015 والذي تبرز أهم مظاهره وأكثرها تجليا من خلال الأسواق السوداء، التي باتت عالما موازيا تمر عبره معظم حركة المال والتجارة، وتختفي خلفه شبكات منظمة عابرة لاصطفافات الحرب والصراع السياسي، بعيدا عن المؤسسات الرسمية أو حتى تلك الموازية التي اختلقتها الميليشيات الحوثية.
ومن يظن أنه قادر على إحصاء مظاهر الفساد الذي يجتاح حياة اليمنيين مخطئ، حيث تتكشف كل يوم ملامح قضايا جديدة لم تكن تخطر ببال حتى أكثر المتشائمين حدّة، كما هو الحال على سبيل المثال مع فضيحة الحوالات المالية المنسية، التي أفضل أن يطلق عليها مقبرة التحويلات المالية، التي ينتهي بها المطاف في أقبية المنظومة المالية والمصرفية، في فضيحة مالية لم يشهد لها التاريخ المصرفي مثيلا في العالم.
وفي ظل هذه الصورة السوداوية القاتمة للمشهد الاقتصادي والمالي في اليمن، من الإنصاف القول إنه لولا الدعم الذي دأبت بعض دول الخليج على تقديمه للحكومة اليمنية، وخصوصا السعودية والإمارات، حينا كقروض وحينا آخر كمساعدات إغاثية وخدمية؛ لكان الوضع أكثر كارثية مما هو عليه اليوم، نتيجة لغياب أي معالجات اقتصادية ونقدية حقيقية تضع حدا لمسلسل الانهيار الذي لا يحتاج خبراء اقتصاديين لمعرفته، حيث يمكن مشاهدته بالعين المجردة يتجول في شوارع اليمن ويرتسم على وجوه اليمنيين.
وباعتقادي كانت الشرعية اليمنية قادرة منذ بداية الحرب على اتخاذ حزمة من القرارات والإجراءات التي تبدو بديهية لوضع عربة القطار على القضبان المحطمة للمؤسسات الاقتصادية، بدلا من دفن تلك العربة في رمال الفساد والحسابات الخاصة، لكن ما كان ممكنا في زمن الرئيس السابق عبدربه منصور هادي، ولم يتحقق نتيجة غياب الإرادة السياسية، ربما يكون اليوم أكثر صعوبة مع ظهور تحديات جديدة ومتسارعة بعضها لم يكن في الحسبان.
من يظن أنه قادر على إحصاء مظاهر الفساد الذي يجتاح حياة اليمنيين مخطئ، حيث تتكشف كل يوم ملامح قضايا جديدة لم تكن تخطر ببال حتى أكثر المتشائمين حدّة
تغيرت عناصر الحرب في اليمن، وتجاوز الحوثيون مرحلة الحرب الاقتصادية الباردة إلى مرحلة تجفيف مصادر تمويل الحكومة الشرعية، عبر استهداف موانئ تصدير النفط في حضرموت وشبوة، في إحدى مظاهر التحولات التي لم تكون في الحسبان، غير أن ما كان في حسبان كثير من المراقبين للمشهد اليمني منذ بداية الحرب، هو أن عدم وضع معالجات حقيقية لقضايا اقتصادية يمكن معالجتها، سيؤدي في النهاية إلى انهيار النظام الاقتصادي الهش، والعجز التام في التعامل مع آثار هذا الانهيار المروع وتداعياته.
وإذا ما عدنا قليلا بالذاكرة الاقتصادية إلى الوراء، فقد ظل الحوثيون يجبون كثيرا من موارد الاتصالات والشبكات المصرفية وحتى رسوم عبور الطيران المدني، من مناطق الشرعية، وبات واضحا أن شبكات المصالح المشتركة وبعض الحسابات السياسية الغامضة هي من تقف خلف هذا التخاذل المذل الذي وجد فسحته نتيجة غياب القيادة الحقيقية في تلك الفترة الحرجة واختطاف قرار الرئيس عبدربه منصور من قبل بعض المحيطين به، قبل أن يتجدد الأمل في التعاطي مع هذا الملف بعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل 2022، بالرغم من حجم الصعوبات التي كانت وما تزال تواجه المجلس في اتخاذ قرار جماعي حازم لمواجهة الفساد وإحياء الإرادة السياسية للتصدي لتبعات الانهيار الاقتصادي وتجاوز نتائج انقسام القرار السياسي والعسكري الذي انعكس على المشهد الاقتصادي خلال السنوات الماضية.
وقد تكون الوديعة السعودية، باعتقادي، فاتحة مناسبة لبداية مرحلة إصلاح اقتصادي جديدة وجادة، يتم التعاطي فيها بإيجابية مع التحديات التي تبدأ من توجيه كل موارد المحافظات المحررة لتصب في خزائن البنك المركزي اليمني في عدن وليس انتهاء بإعادة تفعيل المؤسسات الرقابية كالجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد.
صالح البيضاني
صحافي يمني