عن الخلاف المفترض بين السعودية والإمارات
الدوائر السياسية التي تستثمر منذ سنوات في الحديث عن خلاف سعودي – إماراتي لا شك أنها تشعر بالإحباط. فبعد كل حدث أو قضية، حقيقية أو مفتعلة، تسارع الأصوات المكلفة بالترويج للأمر إلى الحديث عن الخلاف المفترض والدخول في الكثير من تفاصيله. لو صدّقنا ما غرّدوا به على مدى الأعوام القليلة الماضية، فيكون البلدان قد تجاوزا مرحلة الخلاف ووصلا إلى طور القطيعة. لا شك أن شيئا من هذا لم يحدث.
تويتر هو البيئة الحصرية للحديث عن الخلافات الآن. المؤسسات الإعلامية الخليجية التقليدية تلتزم إلى حد كبير باتفاق قمة العلا. يتم تمرير بعض الموضوعات والقراءات في مواقع معروفة الاتجاه لكن غير معروف من يقف خلفها تحديدا. هذا يتيح هامشا أكبر لحرية تناول الموضوع، والإمعان أيضا في الخيال لرسم تمنّيات لما يريدون أن تكون عليه العلاقة بين البلدين.
الحديث نوعان. واحد دائم، وأساسه القضية اليمنية. والثاني، موسمي يتم التطرق فيه لقضايا تبرز وتختفي، مثل حجم الإنتاج النفطي لأوبك+ والموقف من مصر ووضعها المالي ونقلب صفحة مع النظام السوري أم لا.
يراهن المتحدثون عن الخلاف المفترض على ضعف ذاكرة المتابعين وعدم إلمامهم بالتفاصيل. ضعف الذاكرة لا يرتبط بقلة الاهتمام بقدر ما له علاقة بما يسمّى التشبع المعلوماتي. ثمة كمّ هائل من الأخبار الحقيقية والمفترضة والملفقة يتم تداوله يوميا، مشفوعا بصور وتعليقات. الفكرة تقوم على أن الموضوع يختفي، لكن يترك خلفه الانطباع.
خذ مثلا الحديث عن الخلاف بين السعودية والإمارات على مستوى الإنتاج في أوبك+ في ذروة التصعيد الأميركي مع السعودية العام الماضي بعد شهرين من اندلاع الحرب في أوكرانيا. سرّبت وسائل إعلام غربية خبرا عن عدم الرضا الإماراتي بالمبالغة في المواجهة مع واشنطن. التزمت كل دول أوبك+ بالإنتاج، ولم يتجاوب أحد مع طلبات إدارة بايدن. هل تناقش السعوديون والإماراتيون بالأمر، وقدم كل منهم تقييمه للموقف ولرد الفعل الأميركي؟ نعم من الوارد جدا. هل هذا يعني وجود خلاف؟ النتيجة لا تقول ذلك. الالتزام من الطرفين كما هو، وهو التزام نموذجي من الناحية السياسية والاقتصادية، نظرا لسمعة أوبك المعروفة بخروقات الإنتاج والتلاعب من قبل الدول بحجم الإنتاج وبحصص كل بلد. منذ أشهر لم نعد نسمع عن هذا الخلاف المفترض. لكن من تحدث عنه بإسهاب في حينها، كان يعرف ماذا يفعل. الحكاية الأصلية عن إنتاج أوبك+ لم تعد مطروقة، لكن ما يعلق بذهن الناس هو أن ثمة خلافا قائما.
مصر قضية مهمّة. لا توجد أسرار عند الحديث عن الدعم السعودي – الإماراتي لنظام السيسي الذي أنهى حكم الإخوان في مصر، وتسبب من بين ما تسبب به في تراجع آثار التمدد الإخواني الممول قطريا والمدعوم تركيا. هذا كلام قاله الرئيس المصري قبل أيام من على منبر القمة العالمية للحكومات في دبي. هذا الدعم، بأوجهه المختلفة، اشترى السلم الاجتماعي لفترة مكنت النظام المصري الجديد من تثبيت أقدامه. أما كيف تصرفت الحكومة المصرية بعدها بالمنح والودائع والقروض الخليجية، فهذا شأن آخر. غياب السعودية عن قمة أبوظبي التشاورية هو غياب عن لقاء كان من الممكن أن يجمع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بحضور رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد. هذا غياب وليس خلافا سعوديا – إماراتيا على كيفية التعامل مع الأزمة الاقتصادية المصرية. اللقاءات وجها لوجه فيها حساسية، لأن المعنيين يضعون في اعتباراتهم التزامات تفرضها المجاملات. لماذا يمكن القول بثقة إن لا خلاف بين السعودية والإمارات حول هذه القضية تحديدا؟ الجواب مرة أخرى بالنتائج. كيف تقدم الإمارات الآن المال إلى مصر؟ تقدمه من خلال استثمارات وشراكات تجارية وشراء لحصص في شركات. هل يختلف هذا عما تقوله السعودية؟ أو ما تقوله وتفعله قطر مؤخرا بعد أن انكمش الحليف التركي وصار من المجدي أكثر (وأرخص) شراء التفاهم مع مصر ببضعة مليارات، من الاستمرار بصب المال في الثقب الاقتصادي التركي الأسود. القطريون يودون أردوغان، ولكن لا شيكات على بياض مفتوحة لكفالة أخطائه الاقتصادية.
عندما مد الإماراتيون يدهم لسوريا لإنهاء عزلة النظام المستمرة بعد سنوات من دماء الحرب الأهلية، هب المتضررون من المشكلة، وذكروا السعودية بموقفها المتشدد من إعادة تأهيل نظام بشار الأسد وأن للرياض موقفها المختلف وأن هذا الموقف أساس لخلاف جديد مع الإمارات. لا حاجة للإشارة بأن السعودية غيّرت موقفها منذ سنوات من قضية السعي لإسقاط نظام الأسد يوم أوقفت الدعم المالي للفصائل المعارضة. واليوم يقول وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إن الوقت قد حان لنهج جديد في التعامل مع النظام السوري. ما سبق كلام وزير الخارجية السعودي هي طائرات الإغاثة السعودية لنجدة السوريين في مواجهة كارثة الزلزال. قد يقال إن الزلزال كان السبب، لكن ليس معروفا عن السعودية تغيير مواقفها السياسية بتأثير الكوارث الطبيعية. هذا موقف سبق الزلزال. هذا موقف يأخذ بالاعتبار بأن الزلزال لم يبتلع النفوذ الإيراني في سوريا أو يغيّر من خرائط انتشار القوى الخارجية على امتداد الجغرافية السورية. مرة أخرى، أثبتت الأحداث والنتائج أن حكاية الخلاف لا تصمد.
يمكن أن نضيف من عندنا مواضيع قدمت على أنها خلاف، لكنها بالطبع تنتمي إلى فئة المنافسة المشروعة، مثل سعي السعودية لانتقال إدارات فروع الشركات العالمية إلى الرياض بدلا من دبي أو أبوظبي، أو مغادرة مؤسسات الإعلام السعودية مقراتها في دبي لمقرات جديدة في العاصمة السعودية. إذا كان ثمة ما يقال في هذا الشأن فهو تشخيص تأخر السعودية في دخول حلبة المنافسة هذه.
هل يختلف السعوديون والإماراتيون في الشأن اليمني؟ نعم. لكن هل يوجد طرفان لهما علاقة بالحرب في اليمن أقرب إلى بعضهما البعض من الرياض وأبوظبي؟ لا اعتقد أن أي تمحيص للعلاقات بين مختلف الدول والقوى ذات العلاقة سيخرج بانطباع غير أن أقرب حليفين هما السعودية والإمارات، وأنهما عملا منذ اندلاع الحرب إلى اليوم سوية. التقاسم الجغرافي للمهام العسكرية في المرحلة الأولى من الحرب فرض واقعا مع تعامل كل من البلدين مع أطراف الحرب المختلفة، من أعداء وحلفاء. كان من الطبيعي أن تكون الإمارات أقرب إلى الجنوبيين طالما أنها تخوض المعركة على أرضهم. هل كان مطلوبا مثلا أن تعادي أبوظبي عيدروس الزبيدي وهاني بن بريك وهما يقاتلان معها، استرضاء لحزب الإصلاح؟ اليوم الحديث عن الخلاف المفترض بسبب قوات درع الوطن والموقف من ألوية العمالقة. لكن هذا الحديث لا ينظر إلى ما حدث في شبوة وكيف تتم مواجهة الحوثيين، أو انعدام الاحتكاك السياسي أو الفعلي على الأرض بتسليم كل تفاصيل العمليات العسكرية من عدن وصولا إلى سقطرى لقوات سعودية. في كل خطوة ومرحلة من مراحل الحرب، كان التنسيق بين السعودية والإمارات على أعلى المستويات، وتحركت القيادة الإماراتية دائما بالتواصل مع القيادة السعودية لتجاوز أي تعثر تفصيلي في تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه. هل نحتاج إلى تبيان حجم التدخلات بين الأطراف اليمنية المختلفة وتفاصيل علاقاتها مع الإدارات التنفيذية السعودية والإماراتية، أو أن بعض هذه الإدارات تميل إلى هذا الطرف أو ذاك، أو أنها تفضل الإصلاح هنا على حساب الجنوبي، أو لا تستطيع الفكاك من علاقاتها الإخوانية مما يفرض تدخلات صارمة من القيادات.
الحرب في اليمن مستمرة ومن مصلحة الأطراف اليمنية المتصارعة إيجاد أسباب الخلاف أو افتعالها لتحقيق أغراضها، دون الخوض بأحقية هذه الأغراض من عدمها. الحوثيون من مصلحتهم أن يحدث الخلاف، ومثلهم موقف الشرعية المفككة والإصلاح والجنوبي. هذا تموله إيران وذاك السعودية و/أو الإمارات وآخر مدعوم عمانيا وهكذا. المال جزء من الحرب في اليمن.
يقول المثل المصري “العيار اللي ما يصبش يدوش”، أي أن الرصاصة التي لا تصيب فإنها تقلق أو يسمع صوتها. العيارات التي يطلقها المستفيدون من محاولات شق الصف السعودي – الإماراتي الاستثنائي، الذي يمكن القول إنه نادر إقليميا وعربيا في قوة تماسكه وسنوات عمره، تهدف إلى تحقيق دوشة وترك انطباع عن خلاف مفترض يريدونه.العرب
د. هيثم الزبيدي
كاتب من العراق مقيم في لندن