رقصات تهامة اليمن… أرواح الأجداد بإيقاعات الأحفاد
توارثت الأجيال فنونها لكنها الآن مهددة بالاندثار
عدن اوبزيرفر-انديبنديت عربية
كيف يمكن أن نفهم الإنسان من خلال رقصاته؟ بلغة العصر تشبه #الماركات_التجارية الخاصة بمنتجات معينة، هكذا هي #الرقصات تحكي عن حياة مجتمع إنساني معين جغرافياً وتاريخاً وروحياً وفنياً، وتحمل بصماته الحصرية. والرقصات ليست مجرد إيماءات تؤديها أطراف #الجسد العلوية والسفلية بمشاركة الحواس، بل معتقدات مدونة في روح الإنسان وفكره.
وبصفة عامة فإن الرقصات تعني تاريخاً يوثق هوية الإنسان البشري ورمزاً لحياته. وإن كانت المؤسسات والشركات تضع علامات تجارية خاصة بها، فإن الموروث الشعبي من عادات وتقاليد ورقصات وألعاب شعبية يعتبر علامة تاريخية أصيلة وصفة خاصة لصيقة بأهل الأرض.
عند الحديث عن تهامة في هذا السياق فإنها منطقة غنية بتاريخها وتشكل متحفاً مفتوحاً يختزل تراثاً إنسانياً متميزاً يحاكي في جزء بسيط منه ألعاباً شعبية كثيرة منها الرقصات التهامية المتنوعة، التي يصل عددها إلى أكثر من 80 رقصة، بحسب إفادة المخرج السينمائي التهامي حميد عقبي. وتختلف تلك الرقصات في أدبياتها وطقوسها عن بقية الرقصات الشعبية في اليمن، ما يجعل المتابعين يصفونها برقصات العجب، لغرابتها وخطورتها أحياناً وصعوبة محاكاتها وتقليدها.
وكما تنفرد قبائل الزرانيق في غربي اليمن بالرياضات الشعبية النادرة، فإنها تمارس أيضاً رقصات عديدة تمثل هويتها التاريخية (فناً وروحاً)، ومن الرقصات الزرنوقية المشهورة: رقصة الحقفة، والحمرى، والتسيف، وهي في الأساس رقصات قتالية يؤديها الزرانيق قبل بدء المعارك أو كنوع من الإحماء والتسخين عند ممارسة الرياضات الشعبية التي اشتهرت بها هذه القبيلة، كما أنها تمارس في مناسبات الأفراح واحتفالات انتهاء موسم جني التمور وغيرها من المناسبات الزراعية، ويكون أداؤها على دقات المرافع (الطبول)، وصوت القصبة (الناي).
التوحد مع الأرض
يقول المخرج اليمني حميد عقبي في حديثه لـ”اندبندنت عربية”، إن الموروث الشعبي التهامي ينتمي للأرض، كما أن أداءه يشبه ساحة معركة حقيقية، حيث تعلو الصرخات المشجعة ويتعالى غبار الأرض ويكر الراقص ويفر ويسيل العرق من الأجساد ويسقط على التراب في حدث أشبه بالتوحد بين الأرض وإنسانها، ويشعر الجميع بالسعادة والحبور فور الانتهاء من تأديته وكأنهم عادوا منتصرين من ساحة معركة. ويضيف أن “الرقصات تشترك في التحضير لها جميع الفئات الاجتماعية المختلفة، وكأنها أشبه بقوانين وأعراف غير مكتوبة وتشكل معادلة من التناغم والتنوع، وفيها عديد من جوانب التشويق وكثير من الوحدة مع الجمهور”.
السلام في اليمن بين العجز والتحفظ
وتحيل الرقصات الخاصة بقبيلة الزرانيق على نوع خاص من الألعاب الشعبية التي رافقت المحارب الزرنوقي القديم، فهي إلى جانب كونها تقليداً متوارثاً عن الأجداد، تحمل طابعاً قتالياً ويشكل أداؤها خطراً على اللاعب، لذا تقتضي الأدبيات الشروع في التدريب المبكر لهذه الرقصات منذ الطفولة.
رقصة الطاعة والترابط
وتعد من أشهر الرقصات التي تتميز بها قبيلة الزرانيق في تهامة غرب اليمن، وتؤدى بشكل جماعي أو فردي وتتسم بالصف الواحد، وفيها تتشابك الأيادي والأذرع مع بعضها، ويخرج زعيم الفرقة ليحقف بالمقدمة، ثم يعود إلى الصف ويشير بملامح وجهه ليشجع راقصاً آخر للقيام بنفس المهمة. ويرى عقبي أنها “رقصة تحث على الوحدة والترابط والتلاحم والطاعة للقائد الواحد”.
رقصة التسيف
يستخدم في رقصة “التسيف” سيوف حادة تلمع كالبرق، وتعتبر من الرقصات الخطرة جداً والأكثر تعقيداً من حيث الأداء، ويجيدها القليل من أبناء قبيلة الزرانيق، وتقتضي طقوس هذه الرقصة أن يظل جميع أعضاء الفرقة في صف واحد، ويتقدم أحدهم ويأخذ سيفاً ويتلاعب به بشكل مدهش وسريع جداً، وقد يستخدم اللاعب سيفين أحياناً ليقدم عرضاً حربياً أكثر احترافية. وعن دلالة هذه الرقصة يقول عقبي “إنها لعبة شعبية تدل على الروح القتالية التي يتمتع بها أبناء هذه القبيلة، ولأن الطبيعة التهامية مسالمة وتميل للفرح، فإن هذه الرقصات تنتج متعة بصرية ودراما تشويق وصراعاً وعرضاً فرحوياً متكاملاً”.
رقصة الحمري
وتتطلب “رقصة الحمري” لياقة كبيرة وحذراً شديداً، حيث يقوم الراقص بأخذ خنجرين بيديه ويبدأ في التراقص ويحرك ذراعيه وهو يمسك بالخناجر، ثم يقوم برفع إحدى رجليه إلى مستوى كتفيه ويحرك الخناجر أسفل الفخذ المرفوعة، ويغير الحركة بسرعة ليرفع الرجل الأخرى، وهكذا يستمر اللاعب في تكرار الحركة بشكل متتابع وسريع على دقات المرافع (الطبول)، وتكمن جماليات الرقصة في سرعتها وخفتها.
مخاوف
لكن المخرج السينمائي عقبي يخشى من اندثار هذه الرقصات الشعبية التي تتفرد بها قبيلة الزرانيق تهامة، مستنكراً إهمال الجانب الحكومي (مكتب الثقافة في الحديدة)، والمنظمات المختلفة للفرق الشعبية الحقيقية التي تحترف هذه الرقصات، وغياب الدعم المادي.
وأضاف “بسبب ضعف الإمكانات يصطدم الشباب بظروف الواقع ويضطر كثير إلى تركها والذهاب إلى سوق العمل مع العلم أن هذه الرياضات تحتاج إلى تدريب مستمر ولياقة بدنية عالية ونظام غذائي متكامل”.
واعتبر أن الرقصات تحتاج إلى دراسة تشريحية وتوثيقية لكل رقصة وقراءة العمق الدرامي لها، فلو استمر الوضع هكذا “سيفقد اليمن ثروة كبيرة من تراثه وفنه، ويجب أن نتحرك جميعاً لجعل الموروث الشعبي التهامي ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي”.
خلفية تاريخية
على مسرح الحضارات الإنسانية المختلفة كان الرقص من الفنون المشتركة التي مارسته الأمم كطقس روحي وفني معاً، للتعبير والتنفيس عن ذاتها، وقد تطور الرقص بتطور الإنسان عبر العصور، وأصبح هذا السلوك الشبيه بالرياضات المختلفة في العالم ضمن قائمة الموروثات الشعبية المتوارثة، ويعتبر اليمن واحداً من البلدان التي تكتنز موروثاً شعبياً كبيراً يحكي عن ممارسة إنسانها رقصات كثيرة ومتعددة منها الرقصات التهامية الزرنوقية.
ومما يثير الاهتمام أن هذه الرقصات كان لها حضور متميز على المسرح الفني الدولي، ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي شاركت “فرقة الزرانيق بيت الفقيه” بعروض فنية في الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبريطانيا، بحسب إفادة أحد خبراء أرشيف اليمن المصور عبدالرحمن الغابري، الذي كان معنياً بتوثيق تلك الرحلات، وأما في عام 2007 فقد قدمت الفرقة ليلة فنية بديعة في “مسرح المؤتمرات الباريسي فرنسا”.