هنا لندن!
محمد الرميحي:
البث الإذاعي الأرضي لمحطة «بي بي سي» المشهورة باللغة العربية توقف أمس (الجمعة)، وسوف يعوّض ببث رقمي بدلاً منها. هي إذاعة لعبت دوراً مهماً، ولكن ليس متفقاً على (مهنيته)، ولو أن البعض يعتقد ذلك.
فقط، البعض يعتقدون أنَّ الإذاعة قد وُضعت لخدمة المستمع العربي وتنويره، فمن الطبيعي أن تكون لها أجندة الدولة التي تمولها ورعتها كل هذه السنين وهي هنا بريطانيا، التي كانت تهيمن على جزء غير يسير من الوطن العربي، طوال أو في معظم الخمسة والثمانين عاماً الماضية التي عاشتها الإذاعة.
في السنوات الأخيرة و(القسم العربي) أصابه عواران واضحان: الأول، قلة التمويل من الممول؛ لذلك بدأت تعيد وتكرر البرامج نفسها؛ مما صرف عنها العديد من المستمعين، والعوار الآخر، أنَّ القائمين عليها (ربما من العرب) لم يكونوا مهنيين بما فيه الكفاية، لقد طغى لدى بعضهم الهوى؛ فعدد من البرامج غلب عليها التحيز، بل حتى الاستهداف، مع ذلك، فإن كفة الأسف جراء إعلان اختفائها أكثر من كفة الرضا؛ لأن المستمع العربي قد «تعوّد عليها» من جهة أنها ترسخت على فكرة أنها «محايدة»، حتى أصبح ذلك «الحياد» في فضاء المستمع العربي العام وكأنه حقيقة.
الدول الكبرى مثل فرنسا، وألمانيا، وروسيا والولايات المتحدة لها جميعاً محطات إذاعية أو تلفزيونية موجهة للمستمع (المشاهد) العربي، وتتراوح «المهنية» في برامج تلك المؤسسات، إلا أنها لم توجد بسبب «سواد عيون العرب» هي لها أجندة أساساً تخدم الممول، في بعض الأوقات تستخدم تلك الأجندة بشكل «فاضح»، وفي أوقات أخرى بشكل «خفي»، يعتمد على القائمين عليها وعلى انحيازاتهم السياسية والثقافية وقدرتهم على المواءمة.
كثير من الدراسات في الإعلام تقول «إنه لا يوجد إعلام خالٍ من أجندة»، وقد صدر كتاب في سلسلة عالم المعرفة لمؤلفه هلبرت شيلر بعنوان «المتلاعبون بالعقول» يتحدث عن الإعلام الأميركي، وقد أثبت أنه لا يوجد إعلام «من دون قوة تمويلية تستخدمه»، كما أن الدراسات الحديثة تؤكد «أنه لا يمكن لوسيلة إعلامية أن تحل مكانَ وسيلة أخرى».
أول ما بدأت الصحافة في الولايات المتحدة كان الجمهور قلقاً أن تختفي التجمعات الجماهيرية الحاشدة، خاصة في أوقات الانتخابات، نشطت الصحافة بعد ذلك وتعددت ولم تختفِ التجمعات الجماهيرية، وعندما بدأت الإذاعة تخوفت الصحافة، ولكن بعد فترة تعايشت الاثنتان وتكاملتا، وأيضاً بالنسبة للتلفزيون فهو قد تعايش مع الصحافة والإذاعة.
بعض أهل غير الاختصاص يقولون، إن الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي التي نعيشها اليوم سوف تقضي أو تقلل من قيمة الوسيلة الإعلامية المطبوعة أو المسموعة، تلك فكرة متسرعة، فهناك مطبوعات تزداد انتشاراً، على سبل المثال لا الحصر، مجلة «الإيكونوميست» وأيضاً «المجلة الجغرافية» الدولية، كلتاهما تزداد انتشاراً وتوزيعاً، وبعض الصحف في الهند وجنوب شرقي آسيا وحتى في الشرق الأوسط، الفرق هو «المحتوى» الذي تقدمه تلك الوسائل وقدرة القائمين على تنوع ذلك المحتوى وجاذبيته والأهم صدقيته.
اليوم، أخبار التلفزيون والصحف (في الغالب) أكثر مصداقية من وسائل التواصل الاجتماعي مهما انتشرت، والتي لا يضبطها ضابط، فخبر تسمعه الآن في تلك الوسائل «الرقمية» فقط لو تريثت قليلاً لسمعت نفي له، وقد أحدث هذا الخلط شيئاً من «الجفاء» بين المرسل والمتلقي إلى حد السأم! لقد ثبت اليوم أن معظم وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بخلق رأي عام مشوش وبعيد عن الموضوعية، وأثَّر ذلك سلباً في الكثير من المجتمعات، طبعاً زاده رداءة القدرة على أن يقوم البعض بـ«تزييف» الصورة (الفوتوشوب) والتي خلقت فوضى من الصعب تنظيمها حتى بالقوانين.
بالعودة إلى الإذاعة، وهي وسيلة تواصل مهمة، ورغم «الهجمة» من الخارج على أذن وعقل المستمع العربي، فلم تتبنَ دولة عربية إذاعة لها تكون بديلاً للإذاعة البريطانية العربية أو الفرنسية العربية، أو غيرهما. ربما بسبب غياب الوعي لأهمية الإذاعة وخاصة الجانب التحليلي، فهي (أي الإذاعة) تخدم المستمع في أماكن لا يستطيع فيها أن يشاهد تلفزيون أو يقرأ صحيفة، كمثل وجوده في السيارة أو في أماكن لا تصلها إلا الإذاعة.
أما معظم محطات التلفزيون العربية رغم انتشاها، فإن الكثير من المهنية أيضاً ينقصها وذلك بيّن للمتابع، فكثير من المذيعين (والمذيعات) لا ينطقون أسماء من أسماء الإعلام (سواء أشخاص أو أماكن) في الخبر المقروء بشكل صحيح، وذلك نقص واضح في فريق الإعداد، كما أن البعض منهم (منهن) يكون سؤاله للضيف في برامج الحوار أطول كثيراً (في المدة) من جواب الضيف نفسه، والأنكى من ذلك اللازمة غير المهنية التي يتبناها البعض بالقول آخر المقابلة «باختصار من فضلك»! وهو يطرق سؤالاً مطولاً، بعضهم يقاطع الضيف المفروض أنه متخصص في موضوعه، ليستعرض معلوماته على أساس أنه «أبو العريف» في استعراض يشتمّ منه «نرجسية» لا تخفى!
المسكين في كل ذلك هو المتلقي الذي يضطر إلى أن يستمع إلى كل ذلك.
العجيب الآخر في نقص الإعداد، فكثيرون لا يتبينون أن النقص في الإعداد هو «مقتل» وسيلة الإعلام الجادة وهو عصب العمل التلفزيوني أو الإذاعي، فكثير من الإعداد ضعيف وغير مفكر في «الموضوع» المطروح بشكل جدي.
هناك عيب آخر، خاصة في التلفزيون، وهو «العناية بالشكل الخارجي» أكثر من اللازم، إلى حد أن تلك العناية بالشكل تتفوق على الموضوع، وهو أمر لا تحرص عليه المؤسسات الغربية الناجحة، المهم «العقل»، وشاهد بوضوح كثرة «الإكسسوارات» وهي لكثيرين منفرة، وبعضها بالتأكيد لا لزوم له إلا في حفلة فرح.
ربما مناسبة وداع «بي بي سي» العربي (إذاعياً) تجعل من بعض أصحاب العقل في عالمنا العربي أن يتبيَّنوا أهمية خدمة إذاعية متوازنة، فالجمهور العربي في حاجة ماسة إلى ذلك والأمر ممكن، وأيضاً غير مكلف، فقط يحتاج إلى سقف معقول من الحريات، ولكن ذلك ليس متاحاً في الأفق حتى الآن، فسيبقى المتابع العربي يتجوَّل مع محطات الدول الكبرى على ما فيها من عيوب ومن رسائل.
آخر الكلام:
مع ضعف شديد في القراءة، فإن أغلبية من العرب تعتمد على ما تسمع وتشاهد؛ ذاك ما يؤدي إلى تغييب الجمهور.الشرق الاوسط