قراءة في أقصوصة “زُغدة” لحسن سالمي
بقلم: الدكتورة سهيرة شبشوب: أستاذة مساعدة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس/ تونس.
مقدمة
يقول صبري حافظ: “ما أصعب الحديث النظري عن فنّ الأقصوصة”1، ولكنّه عندما يجد ألا مفر من أن يعرِّفها يكتفي بأن يقول إنّها فقط ذلك “الفن البسيط المراوغ المليء بطاقة شعريّة مرهفة وقدرة فائقة على تقطير التجربة الإنسانية”2. وهو إذ يعرِّفها بهذا الشّكل، يبوِّئها مرتبة عالية في سلَّم النّصوص القصصيّة، في وقتٍ اِستحوذت فيه الرِّواية على المرتبة الأولى، بينما كان ينظر إلى الأقصوصة على أنها أدب من الدّرجة الثّانية، من جهة أنّها غير قادرة على الإلمام بالتّجربة الإنسانيّة، وأنّها مهما بلغت من اِكتمال، تبقى عاجزة عن بلوغ المرتبة العظيمة التي بلغتها الرِّواية. أما الحال فهو أنّ الحجم ليس هو المحدِّدَ للعمق القصصيّ، ذلك أنّ التوهج والتكثيف في الأقصوصة قد يمكِّنها من التّعبير عن أعمق التّجارب الإنسانيّة.
ومن جهة ثانية كان يُنظر إلى الأقصوصة على أنّ ما يميزها عن الرّواية هو القصر، بينما هي جنس مستقلّ بذاته من جهة خصائصه الفنيّة.
وعندما نستعد لقراءة أقصوصة يجب أن نضع في اِعتبارنا أنّنا سنقرأ نصًّا مخصوصا مختلفا عن الرّواية بمفهومها التّقليديّ المعروف. فإذا كانت الرّواية نصّا يقوم على المثلّث الأرسطي المعروف، فينطلق هادئا وتتأزّم فيه الأحداث شيئا فشيئا في اِتّجاه العقدة لينحدر شيئا فشيئا في اِتجاه النهاية، فإن الأقصوصة تنطلق مأزومة مشحونة بالتّوتّر. إن بداية الأقصوصة بؤرة تتجمّع فيها خيوط اللّعبة القصصيّة وترتسم الفكرة التي يكون على القارئ تتبُّعها وتبيّنُ مآلها من خلال كلّ التّفاصيلِ الآتية. وتكون النّهايةُ البديلَ البنائيَّ للعقدة الرّوائيّة، فهي البؤرة التي تتجمّع فيها كلّ عناصر الحبكة. هي لحظة الكشف والتكشف على حد تعبير صبري حافظ. وهي “كالقنبلة التي تلقى من طائرة يكون هدفها الأساسي هو
المسارعة بإصابة الهدف بكل طاقتها الاِنفجارية”3. ويفسر فرانك أوكونور غياب الذروة تفسيرا ماديا جدليا إذ يرى الأقصوصة صورة الجماعات المقهورة التي تتحرك من البداية إلى الكارثة4.
ولا وجود لموضوعات كثيرة متشعّبة، فالأقصوصة تتميّز بما أسماه “إدغار ألان بو” بـ”وحدة الأثر”5، التي تتحكّم في القارئ من بداية الأقصوصة إلى نهايتها. وقد بدا لنا أنّ وحدة الأثر تتحقّق من خلال وحدة المكان ووحدة الزّمان ووحدة الشّخصياّت ووحدة الأحداث من جهة، ومن خلال طرائق إجراء السّرد والوصف والحوار من جهة أخرى. واِنطلاقا مما ذكرناه آنفا، سنحاول قراءة أقصوصة “زغدة” لنستجلي بعض خصائصها الشّكليّة.
1- بنية الأقصوصة
تتضمّن “زغدة”6 ثمانية مقاطعَ سرديّةٍ، والحكاية فيها بسيطة جدا، مفادُها أنّ جدّة تخرج لحضور عرس في الصّحراء لكن يضيع حفيدها الشّقيّ فينقلب العرس إلى مأتم وفي النّهاية يقع العثور على الصّبيّ التّائه.
ولم يُضع المتكلّم وقته في التّمهيد للأحداث. فقد اِنطلقت “زُغدة” ببداية متوتّرة، فمنذ السّطر الثّاني نجد عباراتٍ تنذر بـ”الكارثة”، فإضافة إلى أنّ الجّدّة رفضت صحبة حفيدها لما آنست فيه “من شقاء غريب لا ينتهي عادة إلا بمكروه”(ص1)، تشدُّ اِنتباهَنا عبارتان، أولاهُما عبارةُ “شقاء غريب” وهي تُعِدّ القارئ لتلقّي أحداث غيرِ مألوفةٍ وتشدُّه كي يبحث عن موطن الغرابة، وثانيتهما عبارة “مكروه”. وهي عبارة لم توضع عبثا ففي قانون الكتابة الأقصوصيّة تُعَدُّ مثل هذه العبارات قرائنَ، على القارئ أن يأخذها بعين الاِعتبار ويتَتَبّعها لأنّها هي مدار القول كلِّه، لا سيَّما أنّ جملة أخرى أشدَّ إيحاء ستلفت الاِنتباه إذ ستكتشف الجدّة أنّ المحظورَ قد وقع، فحفيدها خرج فعلا مع القافلة. تقول: “فلما اِقتربنا من المضارب برز لي وعلى وجهه اِبتسامة شيطان”(ص1)، ثم نجد في الصفحة نفسها حديثا عن “بئر عميقة ضرب حولها سور قصير من الحجارة والطين”(ص1). وبما أنّه يفترض أنّ الأقصوصة يجب أن تكون خالية من الزوائد وأن تكون مكثفة، يتوقع القارئ أن البئر عنصر قصصيّ سيساهم في تطوير الحبكة لولا أنّ المتكلمة وهي الجدّة تقضي على هذا التوقّع بقولها معلّقة على البئر “سرت في خاطري صورة حفيدي وهو مدقوق العنق في قعرها” (ص1). ويبتعد هذا القول بالقارئ عن تصوُّر إمكانيّة أن تكون للبئر تلك القيمة الفاعلة في الحدث، لكنّه يضعه على درب الخطر، ومن ثمَّ على طريق البحث عن إمكانيّات أخرى أو أخطار أخرى، فيولِّي وجهه شطرَ قرائنَ أخرى قد تقوده نحو اِكتشاف لغز النّصّ.
وعلى هذا النّحو تسير الأحداث بسرعة وتوحي بأنّها تتجِّه نحو مصيرٍ فاجعٍ سيلقاه الصّبيّ الشّقيّ الذي تاه في الصّحراء وأشرف على الهلاك، فنجده وقد أحاطت به مجموعة من الكلاب تستعدّ لاِفتراسه. وفي لحظة النّهاية، وهي اللّحظة التي تنحلّ فيها العقدة، تلتقي عناصر الحبكة كلُّها فتعثر الجدّة على حفيدها التّائه ويكون الاِنفراج. وهكذا نرى أنّه لا أثر للبناء الثلاثيِّ لأنّ الأزمة اِنطلقت مع البداية، ولأنّ النهاية هي في ذاتها لحظة تأزم واِنفراج في آن واحد. وإضافة إلى هذه البنية الغريبة تتميّز الأقصوصة بخصائص بنائية أخرى منها وحدة الأثر.
2- وحدة الأثر
هي أحد أهمّ مقوّمات الأقصوصة، التي بلورها إدغار ألان بو، باِعتبارها تحقّق خاصيّة القصر في هذا الجنس القصصيّ الذي، على حدّ تعبير صبري حافظ، “لا يسمح بأي حال من الأحوال بالتراخي أو الاِستطراد أو تعدد المسارات ويتطلب قدرا كبيرا من التكثيف والتركيز واِستئصال أي زوائد مشتتة. ولا يسمح بجملة زائدة أو عبارة مكرورة أو حتى إيضاح مقبول”7. إنها تتعامل مع قارئ ذكي، منتج لا مستهلك، وهي تعوّل على القارئ كي يفكّ شفرات القول ويفهم ما بين طيّات السطور.
وتتحقّق وحدة الأثر من خلال المضمون الحكائيّ وكذلك من خلال القصّة8. فمن جهة الحكاية تتسم الأقصوصة بوحدة المكان والزمان والشخصيات ووحدة الموضوع.
فعندما ننظر في المكان نجده واحدا غير متعدد فهو صحراء. فلم يخرج بنا السرد نحو أماكن أخرى كما يقع في الروايات. لقد اِنطلقت الأحداث في الصّحراء واِنتهت في الصّحراء. أما الزّمان فغيْر ممتدٍّ إذ لم يتجاوز اليومين، فقد خرج الموكب صباحا ثم جنّ الليل(ص1) ثم نجد “الشمس تطل على الكون في اِستحياء”(ص2). وإن هذا الحيز القصير يساعد على تقليص المساحة النّصيّة كلِّها فلا مجال للتّمديد والإطالة.
ولا نكاد نجد شخصيّات كثيرة، فما عدا الجدّة والحفيد اللّذين يمثّلان الشّخصيّتين الرّئيسيّتين، نجد شخصيات أخرى، بعضها مفرد وبعضها جمع. أمّا الشّخصيّات المفردة فهي رفيق الصّبيِّ، والرجل الذي اِلتقى به في الصّحراء، وهما شخصيّتان تدوران في فلك الشّخصيّة الرّئيسيّة ولا وجود لهما خارج مسارها. أما باقي الشّخصيّات فتظهر في شكل جمعيّ مثل “الرعاة” “النسوة” “الصبية” “الرجال” وهم يفعلون بشكل جمعيّ كقوله “تحلق الرجال أولا حول جفان كبيرة”(ص2) أو قوله “جعلت النسوة شيئا من الأدم على فضلتهم”(ص2). وبهذا لا تؤثر كثرة هذه الشّخصيّات في حجم الأحداث واِتّساعها واِمتدادها، تلك الأحداث التي نرى أنّها لا تعدو أن تكون حدثا واحدا يتمطّط على مدى النّص حتى أنّه يمكن تلخيصه في سطرين أو ثلاثة. فالأقصوصة تدور حول جدّة يضيع منها حفيدها في الصّحراء فتلتاع وتبحث عنه إلى أن تعثر عليه في النهاية. وجلي أنّ كل الأعمال التي قامت بها الشّخصيّات إنّما تتعلّق بهذا الحدث الرّئيسيّ.
ومن جهة القصّة نجد أنّ وحدة الأثر تتحقّق عن طريق أنماط الخطاب. فبالنّسبة إلى السّرد نجد أنّ الحكاية وردت على ألسنة مجموعة من السّردة، منهم سردة بضمير الأنا ومنهم سارد مجهول (Anonyme). ونلاحظ أنّ السردة بضمير الأنا شخصيّات تنتمي إلى العالم القصصيّ وهي متجانسة الحكي (Homodiégétiques) وهي أطراف في القصّة فاعلة فيها. وقد دشّنت الجدّة السّرد في المقطع الأوّل وواصلته في المقطع الخامس وختمته في المقطع الثامن، وفي الأثناء تناوب سردة آخرون على الكلام، فنجد الحفيد يسرد المقطع الثاني، وعابر الصّحراء يسرد المقطع الرّابع، والصّبيّ يسرد المقطع السّادس، واِمرأة
أعرابيّة تسرد المقطع السّابع. أما السّارد المجهول فهو سارد غير متجانس الحكي (Hétérodiégétique) لا علاقة له بما يجدّ من أحداث ولا أثر له داخل العالم القصصيّ وإنما هو يسرد من موقع متعال. وقد تولَّى هذا السّارد السّرد في المقطع الثّالث بقوله مثلا “وجد نفسه في ركبهم دون أن يعود إلى جدته أو يستأنس برأيها..كانت نفسه منفلتة من كل قيد، حاملة بين أقطارها طاقة من الحركة والصخب لا تستوعبهما إلاّ الصّحراء..”(ص2).
وقد يتبادر إلى الذّهن أنّ تعدّد السّردة قد يفضي إلى كثرة الأحداث وتنوعّها وتشعّبها وترهّلها، لكن الواقع ينفي ذلك، ذلك أنّ السّردة ينخرطون في السّرد بكلّ اِنسجام حتى لكأنّهم واحد، فكل سارد يواصل السّرد من النّقطة التي بدأها سابقه لكن تتغيّر فقط زاوية الرؤية. والسّردة، رغم تعدّد وجهات نظرهم ملتزمون بالخطّ السّرديّ، فلا أثر لمعلومة مكرّرة مُعادة ولا لحدث جانبيٍّ يخرج عن مسار القصّ. وقد يبدو طبيعيا أنّ الجدّة ستحكي فقط قصّة حفيدها التّائه، لأنّ هذه القصّة استقطبت كلّ مشاعرها واِستنفدت كلّ طاقتها، كما قد يبدو طبيعيّا أنّ الحفيد سيقتصر على أن يحكي قصّة توهانه في الصّحراء، لأنّها حكاية مصيريّة كادت تفضي به إلى الهلاك، ومن الطبيعي أنّ السارد المجهول يحكي قصة الصّبيّ الذي “وجد نفسه في ركبهم إلخ…”(ص2)، لأنّه وهو ملتبس بكيان آخرَ، له بعض خصائص المؤلّف، ملتزم بالعقد الأقصوصيّ الذي لا مجال فيه للتّراخي، ولكن من غير الطّبيعيّ أنّ بقيّة السّردة الذين لا علاقة لهم بالصّبيّ ولا بالجدّة اِلتزموا بدورهم بهذا الخطّ السّرديّ ولم يخرجوا عنه، فاِتّفقت الرّؤية السّرديّة مع الحكاية، وتمّ التّبئير على المكوّنات الأساسيّة للقصّة وتحديدا الصبيّ. فنجد سارد المقطع الرّابع، وهو عابر السبيل، يدشّن السّرد بالحديث عن عثوره على الصّبيّ بقوله “أطل علي من بين ثنايا السراب(…)حسبته حيوانا في البداية”(ص3). ونجد الأعرابيّة تتحدّث في مطلع حكايتها عن كلاب “تضرب حصارها حول صبي يحاول إحاشتها بالحجارة وبإثارة الغبار في وجوهها”(ص5).
وخلال السّرد يبدو أنّ كلّ الجوانب الأخرى المحيطة بالسّردة غائبة وكلّ شواغلها باِعتبارها شخصيّات بقيت غامضة بالنّسبة إلى القارئ، فلا شاغل عدا الصّبيّ التّائه.
ولا عجب فهذا العالم التّخييليّ يصدر عن كيان أكبر هو الذي يحرّك خيوط اللعبة السردية، والذي يحاول أن يحكم الإمساك بها من خلال أولئك السردة الخاضعين كلّهم لسيطرته. وهو يبدو واعيا تمام الوعي بما تتطلّبه الأقصوصة من وحدة أثر.
وعندما ننظر في الوصف نجد أنّه وظيفي يتناول الموصوف في بعد واحد من أبعاده ذلك الذي يرتبط بالحدث الرئيسيّ. فإضافة إلى اِختيار الصّحراء مكانا للأحداث، وهذا يساعد على تأزّم الأحداث بما أنّ الصّحراء ترتبط في المخيال الجمعي
بالضياع والموت، فإن هذا المكان بدا واقعيا وتخييليًّا في آن واحد لأنّه اصطبغ بوجهة نظر السّارد، فلم يهتم المتكلّم بتحديدها جغرافيّا وتوبوغرافيّا بقدر ما اِهتمّ بتحديد الصّفات التي تساعد على تنامي الأزمة، فقد وصف اِتّساعها بقوله: “الأرض هنا بلون واحد، يقصر الطرف عن أرجائها..عند آفاقها البعيدة سلسلة جبال محيطة..”(ص1). وهذه العبارات “لون واحد، يقصر الطرف عن أرجائها، آفاقها البعيدة، سلسلة جبال” ترسِّخ في ذهن القارئ فكرة أساسيّة يسعى المتكلّم إلى جعل القارئ يسير على وحيها عند القراءة، حتى إذا جاء الحدث المهمّ وهو ضياع الصّبيّ، وجد له فيها مبررا، فاِتّساع المكان يسهل الضّياع. ومن الأوصاف التي تزيد المكان تأثيرا في الأحداث أنّه بدا مرتعا للذئاب المفترسة و”الهوام”(ص1)، كما نجد أسماء أخرى نُعتت بها الصّحراء من قبيل “الخلاء(وردت مرتين)، والمتاهة(وردت 4 مرات)، واِرتبط وصفها أيضا بالضّياع والقيظ والجحيم(ص3)، فالصّحراء غادرة فيها جرف هار عميق الغور (ص5). وهي ترتبط بالرّمضاء والموت(ص7). فالوصف إذن لم يخصَّ من هذه الأمكنة سوى ما يمكن أن يخدم الأزمة، حتى لكأنّنا بالمكان، على حد تعبير صبري حافظ، “قد حدد جماليا وأسر في قبضة مجموعة من الكلمات واِنتقيت مكوناته بعد أن اُستبعدت منها مكونات أخرى” (ص29).
وذلك هو شأن الزمان، فالوصف كله اِنصب على الظواهر المثيرة فيه. فنجد أنّ “الليلة كانت قمراء يرقص في أرجائها النسيم”(ص1). فهذا الليل الجميل سيغري الصبي بالخروج للّعب مع أقرانه، ومن ثم سيكون مؤديا إلى حدث ضياعه. ويعمد السارد بعد ذلك إلى تصوير طلوع الشمس “التي أخذت ترتفع منذرة الكون بالجحيم”(ص2). وهو يفصل القول فيها تفصيلا ذا دلالة فيقول:”السماء عليها ثوب رمادي ينذر بالقيظ”(ص2). ثم يتحدث السّارد عن الهاجرة(ص5) وعن الرّمضاء(ص6)، فهو يوظّف الزّمان في تطوير الحبكة، فالشّمس الحارقة اِرتبطت بحدث الضّياع والخوف، أما وصف الشّمس وهي في طريقها نحو الغياب في قوله: “الشمس بدأت تنزل عن عرشها”، فيتزامن مع حلّ العقدة ومع الاِنفراج، ذلك أنّ الجدة ستلتقي أخيرا بحفيدها في تلك الفترة من اليوم. فالزّمان إذن عنصر بنائي في الأقصوصة يرتبط بها أيّما اِرتباط ويساهم في تطوير الحركة القصصيّة، ولا أثر فيه لعناصر زائدة.
وإذا أمعنّا النظر في الشّخصيّات، وجدنا أنّ السّردة لم يحيطونا علما إلا بصفاتها التي لها علاقة بالأزمة، فالصّبي لأول مرة يزور الصّحراء(ص1)، وهذا سيبرر عدم خبرته بمسالكها وضياعه بها، وهو أيضا “لما يبلغ الثامنة”(ص1)، وهذا سنّ يحيل على حبّ اللّهو مع نقص الوعي وعدم النّضج، وهو أيضا يتّسم بـ”شقاء غريب” واِبتسامته “اِبتسامة شيطان”. هذه الصّفات التي ميّزت الصّبيّ تفسِّر ما سيقوم به من أعمال. ثم إنّ الوصف الذي ظهرت به شخصيّة الجدّة منذ البداية يتماشى مع ما ستعيشه من أحداث مقلقة، فقد بدت منذ البداية في حالة اِرتياع تامّ من صحبة حفيدها فهي تصوّر مشاعرها قائلة:”
فتوجست خيفة”. ثم تصف الجدّة حالتها بعد ذلك مؤكدة حلول هذا التوجّس فتقول بعد أن عاد الرّعاة دون حفيدها: “فهوى قلبي وركبتني فاجعة أفقدتني الوعي”(ص4). لا أثر إذن لوصف هامشيّ، مجانيّ. وكلّ جزئية تخدم ذلك السّير الحثيث نحو النّهاية.
وعلى هذا النّحو نفسه كان السّرد وظيفيّا. وقد نعثر على أحداث تبدو لنا زائدة من قبيل قول الجدّة: “وجدناهم نصبوا خمس خيام في ساحة فيحاء”(ص1)، لكن عندما نتأمّلها نجد أنّها في الحقيقة تبني رؤية للعالم المنقول على أساسها سيتمّ تلقِّي الأثر، كما تبرر سهو الجدة عن حفيدها فقد تشتت اِنتباهها وتركيزها بفعل حركة نصب الخيام حتى لم تعد تقدر على وضع حفيدها تحت رقابتها. وكذلك شأن تلك الأحداث التي وردت على لسان الصّبيّ مثل قوله: “نحن الصبية لم نكف عن الركض واللعب بأرجل حافية رغم تحذير الكبار مخافة أن نلدغ أو نلسع..لكننا كنا نمضي على شريعتنا إلخ..”(ص2) أو قوله: “العشاء طبخته النسوة على أحطاب الصّحراء فاَستغرق منهن وقتا طويلا، سيما وأنّ اللحم كان قاسيا كالمطاط، اِقتطعنه من ذبائح “قارحة””(ص2)، أو قوله: “تحلق الرجال أولا حول جفان كبيرة، تكدس فيها اللحم والكسكس(…) وراحوا يعبون منها عبا(…) في الوقت الذي كنا نحاش فيه نحن معشر الصبية عن الطعام كما تحاش الكلاب”(ص2). مثل هذه التّفصيلات هي التي شكّلت المعنى، لأنّها بيّنت أنّ العلاقة بين الصّبيان وبين الكبار بدت مقطوعة، فالصّبيان بدَوا مهمّشين وغير مرغوب فيهم ومجتثّين من عالم الكبار، لذلك عمدوا إلى بناء عالمهم الخاصّ الذي لا يكون عادة إلا مفارقا لعالم الكبار، ناشزا عن نظامه وتقاليده، صادما لهم وغامضا لا يمكن فهمه. فالصّبيان يجدون الأفق ضيّقا مع أهاليهم فينظرون إلى السّماء التي تبدو لهم أوسع مما كانوا يرونه في المدينة(ص1)، فينساقون وراء هذا الاِتّساع لعلّه يقودهم إلى عالم أفضل.
وإذا كان السّرد يركز على مثل هذه التّفاصيل، فإنّ السّردةَ في المقابل يتغاضون عن تفاصيل غير ذات قيمة، اِنطلاقا من أن “الفن اِختيار، وعلى الفنان أن ينتقي فيغضي عن كل ما لا يفيد موضوعه” حسب ما يراه موباسان9. لذلك بدا النّصّ عموما خاليا من الزّوائد مليئا بالفجوات والفراغات من خلال اِعتماد الإضمار (Ellypse)، والسّرد المؤلف(itératif) لا سيّما في بيان التّحول في الزّمان كما في قوله: “وعندما جنّ الليل”(ص1)، فقد تمّ السّكوت عن الأحداث التي وقعت بين الغروب واِشتداد الظّلمة. ويتجلّى ذلك أيضا في قوله: “فلما مرّ من الزّمن زهاء الساعة إلخ”(ص6). ومن النّماذج عن السّرد المؤلّف ما نجده في المثال التّالي: “نحن الصبية لم نكف عن الركض واللعب بأرجل حافية، رغم تحذير الكبار مخافة أن نلدغ أو
نلسع.. لكننا كنا نمضي على شريعتنا، لا نسمع لهم قولا، ولا نبالي منهم زجرا..”(ص3). إن ما ورد في المثال يسرد أحداثا تكرّرت وامتدت على زمن طويل لكنّ السّارد أجملَ القول فيها. وقد اِختزل السارد كذلك، بواسطة السّرد المؤلَّف، ما وقع على مدى ليلة كاملة في فقرة صغيرة هي التّالية: “ولا أذكر كيف بت تلك الليلة..لعلي لم أنم مع جملة الصبيان..أو لعلي اِفترشت معهم الأرض في العراء، ولم نصب من الكرى إلا نزرا قليلا..بعد أن ركضنا طويلا إلخ”(ص2). ويبدو هذا طبيعيّا لأنّه، على حدّ تعبير موباسان، “يلزمك مجلد كامل لكي تروي ما يحدث لشخص واحد في يوم واحد”10.
ويمكن القول إن تعدّد السّردة ساهم في تحقيق الاِختزال، فالسّارد يجد نفسه محصورا ضمن مساحة نصّيّة قصيرة عليه أن يسرد خلالها كلّ ما لديه، لذلك لا يتوسّع في السّرد. إنّه يكتفي بالأحداث المهمّة البارزة، لأنّ ساردا آخر سرعان ما يحلّ محله ليواصل السّرد عوضا عنه.
ومن الأشياء التي لا يتوسّع السردة في عرضها كذلك، أقوالُ الشّخصيّات، فيتولّون الحديث عوضا عنها، وذلك بتسريد خطاباتها، فكثُرت الخطابات المسرّدة(Narrativisés) كما في قول الجدّة “رفضت صحبته في البداية”(ص1)، فهذا الذي يبدو حدثا ليس سوى حوارٍ جرى بين الجدّة والصّبيّ، فالصّبيّ يطلب والجدّة ترفض فيعيد الكرّة وتجدِّد هي رفضَها مرّاتٍ، لكنّ السّاردة قدّمته مسرودا. ومثل هذه الحوارات كثيرة في “زُغدة” من قبيل ذاك الذي دار بين عابر السّبيل وبين الصّبيّ الذي وجده تائها في الصّحراء. يقول: “فسألته عن أصله وفصله وسبب خروجه وحيدا في مثل هذا الحر، فأخبرني أنّه جاء من المدينة، يشهد عرسا مع جدته، وما لبث أن تاه وسط الصّحراء الغادرة”(ص4)، أو قوله :”وكنت عرضت عليه الركوب فأبى”(ص4).
بل إن ثمّة خطابات تمّ حذفها كلّيّا ولم تقع الإشارة إليها لكنّها تتجلّى من خلال الأحداث حين تقول الجدّة مثلا عندما برز لها حفيدها فجأة عند بلوغ المضارب في الصحراء:” فتوجست خيفة لكني غالبت مخاوفي وضممته إلى صدري”(ص1). لقد وجدت الجدّة نفسها فجأة أمام حفيدها الذي رفضت أن تصطحبه. وهذا الموقف المفاجئ يفترض أن الجدة توجهت بكلام ما، إلى حفيدها ولا يمكن أبدا أن تضمّه إلى صدرها دون أن تنحوَ عليه باللاّئمة.
إن الأقصوصة إذن تسير بصمت فلا نكاد نسمع سوى أصوات السّردة أمّا الشّخصيّات فقلّما تتكلّم عدا في بعض الخطابات المباشرة(directs) القليلة جدّا، إذ نجد حوارا بين الصّبيّ وأقرانه(ص3)، ثم آخرَ بين جمع من النّاس وبين الجدّة(ص4) ثم
نجد خطابا أحاديّا بين إحدى الشّخصيّات وبين الصّبيّ حين تمّ العثور عليه(ص6)، وحوارا أخيرا بين الصّبيّ وجدّته، فالصّبيّ قال: “جدّتي !!”، والجدّة أجابت: “أيّها الشقي…”. وهي كلّها حوارات تتّسم بصفتين، فهي مقتضبة من جهة، وهي أيضا غير مجانيّة، بمعنى أنّ لكلٍّ منها وظيفة في الحبكة القصصيّة. ويبدو أنّ هذا يندرج ضمن الخطّة السّرديّة التي وُضعت على أساس الوعي بخاصيّة القصر في النّص الأقصوصيِّ.
خاتمة
بدا لنا إذن كيف اِقتطعت هذه الأقصوصة جانبا من حياة، وكيف عرضته عرضا صادما منذ البداية ثم تدرجت به برفق نحو النّهاية التي بدت مجمعا لكلِّ التوتّرات. ولا يحسّ القارئ بأنّ النّصّ يتشعّب أو يتعاود، فالمكان واحد والزّمان واحد والأحداث واحدة والشّخصيّات قليلة، ولا أثر لزوائد في الوصف أو الحوار أو السرد تعطِّل مسار القصة. لكلّ التفاصيل قيمة في تحقيق الهدف الذي رسم منذ البداية. وكلّ جزئيّة محسوبةٌ تخدم مسارَ القصّ.
المصادر والمراجع
المصادر
§ “زغدة”، ضمن المجموعة القصصيّة “زُغدة ” صادرة عن دار الاتحاد للّنشر والتوزيع سنة 2016.
المراجع
§ أوكونور (فرانك): الصوت المنفرد، مقالات في الأقصوصة، ترجمة محمود الربيعي، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993.
§ مجلة فصول، مج 2، العدد الرابع، 1982:
-حافظ صبري: مقال “الخصائص البنائية للأقصوصة”
– نادية كامل: مقال”الموباسانية في القصة القصيرة”.
§ Allan Poe (Edgar): Review of Hawthorne’s Twice-Told Tales. https://commapress.co.uk/resources/online-short-stories/review-of-hawthornes-twice-told-tales/
§ Allan Poe (Edgar): The Philosophy of Composition, 1848, (publié en Octobre, 2009).