النظرة السوسيولوجية لسحر كرة القدم
د. منى الغريبي
غالباً ما نقف منبهرين أمام الاهتمام المتزايد بكرة القدم بين كل شعوب العالم بغض النظر عن العمر والجنس والمستوى الاجتماعي والاقتصادي للدول، فقد تحولت من مجرد نشاط رياضي إلى شغف وجداني يستثمره العالم في تحقيق التنمية الإنسانية واستنهاض قيم المواطنة، بل ويعتقد صانعو القرار أن الرياضة هي البديل المناسب للتمثيل والتعبير السياسي. ولتفسير هذا الاهتمام نشأت علوم اجتماعية تهتم بدراسة التركيب الاجتماعي والسلوك الاجتماعي في الأنشطة الرياضية وعلاقتها بالنظم الاجتماعية والسياسية.
تميل الشعوب إلى تبني كرة القدم كهواية وصناعة، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، ويتشكل بناءً عليه رسم للهوية الوطنية. إن ارتباط كرة القدم بذاكرة المكان والزمان وبمرحلة الطفولة وما يتخللها من اكتساب للأنماط السلوكية المتوارثة من البيئة الأسرية والمجتمعية، ما هو إلا عوامل نفسية واجتماعية وروحية تشكل اتجاهات الشعوب نحو كرة القدم. كما أنها ترتبط بالعمليات الاجتماعية الإيجابية التي تحيك نسيج المجتمع، وتؤثر على الأنساق المنظمة للحياة الاجتماعية، والتفاعل الرمزي بين أفراد المجتمع، وتشبع الغرائز الإنسانية الطبيعية كالتنافس والتعاون والتكيف. فتحول كرة القدم إلى لعبة شعبية تؤثر وتتأثر بثقافة المجتمع، ما يجعل منها وسيلة لإظهار ثقافة المجتمع والتعبير عنها من خلال المنافسة الإيجابية والمشاركة المجتمعية والتعاون، وبالنتيجة هي تخلق تواصلاً تجسيرياً وتبني شبكات اجتماعية بين أفراد المجتمع وترفع درجة الثقة كمؤشرات لرفع رأس المال الاجتماعي. كل هذا يعزز قيم الانتماء المجتمعي ومفاهيم التسامح وقبول الاختلاف. هذا النوع من التواصل والحاجة للأحلام والتوقعات والشعارات التي تصاغ لتشجيع الأندية والأغاني الوطنية كلها تشبع جوانب نفسية لدى الإنسان. وهو ما هيأ هذه اللعبة الرياضية لأن تتحول إلى مشروع تنموي إنساني واقتصادي واجتماعي، فاستضافة الدول لمباريات كأس العالم تستدعي دخول استثمارات وطنية ودولية وتشغيل أيدٍ عاملة وتصنيع منتجات استهلاكية مرتبطة بمنتخبات كرة القدم الأقوى والأكفأ، ولا ننسى أيضاً الأهمية الاقتصادية للدعايات والإعلانات.
نحن اليوم في عصر الجماهير، العصر الذي تذاب فيه الخصائص الفردية في بوتقة واحدة – عند التجمع الجماهيري حول هدف معين – لتنتج خصائص جديدة وتشكل روحاً جماعية واحدة تخضع لما أطلق عليه غوستاف لوبون قانون الوحدة العقلية للجماهير. من خصائص هذه الروح أنها تتلاشى خلالها الشخصية الواعية للفرد وتهيمن الشخصية اللاواعية بحيث توجه الجميع نحو خط واحد بواسطة تحفيز وتعزيز العواطف والأفكار. والعجيب أن الجمهور هنا يصبح أقل مرتبة من الإنسان المفرد فيما يخص الناحية العقلية أو الفكرية. ولو طبقنا هذا المنظور على فكرة كرة القدم سنجد أنها مجموعة من اللاعبين يقومون بالجري خلف كرة لتسجيل أهداف في مرمى الخصم وحماية مرماهم، هي فكرة بسيطة لا واعية إلى حد ما لكنها في نفس الوقت تصنع تاريخاً في حال إحراز البطولات. الجمهور هنا لا يحتكم للعقل في ربط فكرة كرة القدم بالتاريخ، لذا ما يحرك الجماهير فعلياً هي العواطف وليس العقل. وتلك العواطف هي التي تعزز القيم الاجتماعية كقيم التضامن والمواطنة والولاء للوطن لدى الجماهير في حالة ما كان الخصم من خارج الدولة أو المنظومة العرقية أو الإثنية. كما أنها تؤجج عواطف المجد والشرف، وتعزز قيم احترام المؤسسات والقادة والقبول بقرارات الاتحادات الرياضية والحكام واتجاهات تضخيم الأيقونات الرياضية وإعطائها مكانة اجتماعية عليا.
لا يمكن إنكار أن كرة القدم اليوم هي قوة خفية ناعمة ترتبط بالهيبة والتمثيل السياسي والتقاء المصالح بين الدول، فهي تعكس القوة الاقتصادية للدول من خلال شراء الأندية الرياضية وإدارتها، وتعكس إنجازات الدول والتقدم الحضاري والتغير الاجتماعي. ونتيجة للتحديات السياسية والاقتصادية والأمنية أصبحت كرة القدم اليوم بمثابة المرآة التي ترى الدول وشعوبها نفسها من خلالها ولتقدم صورة إيجابية عنها للعالم. كل هذا يجعل من كرة القدم معشوقة الجماهير.الشرق الاوسط