الشمال المنفصل والجنوب المرابط
احمد عبداللاه
في 94م انقلب الشمال على الجنوب وفرض وحدته الخاصة بالحرب وبالقوة، وأصبحت منذ ذلك التاريخ في نظر الحاكم المنتصر منجزه الخاص، له الحق الحصري في أن يرث ما فوق الأرض الجديدة وما تحتها.. بعد أن شرَّع له “علماء الإفتاء” جواز قتل “الشريك الملحد”.
وما أن توسعت لديه لذائذ السلطة حتى أزاح حلفاءه “قساوسة الدين السياسي” بعد أن قاسموه الحرب والقتل والغنائم.
تغيرت الوحدة بعد ذلك لتكون على مزاج “الرئيس” وكان على الجنوب أن ينصهر ويذوب ويختفي حتى يتوهم المنتصرون بأن الوحدة صارت من قوانين الطبيعة.
وحين انفجرت الساحات في 2011م حققت “العَود النفعي” للشراكة، لكن هذه المرة على قاعدة المحاصصة الثورية للسلطة، وأن يتحول الرئيس إلى زعيم.. فيما ظلت الوحدة في جيب المحاربين القدامى–الجدد، تحمل لهم ذات المعنى الذي تأسس في يوليو 94م مع تغيير مستمد من فحولة “الربيع اليمني”، تمثل في تحديث طريقة قتل الحراكيين من أهل الجنوب.
وأصبحت الوحدة بعد ذلك تخضع في الغالب لمزاج تنظيم الإخوان الذي يسعى لإنهاء ملامح الدولة الوطنية، من خلال “أقلمة” البلدان الإسلامية. يبدأ اليمن كنموذج “بروتوتايب” في الجزيرة العربية، يليه، ولو بعد حين، تقسيم المملكة إلى نجد والحجاز والشرقية والشمالية… الخ، ثم تتواصل هيكلة الجغرافيا السياسية الإسلامية حتى تصبح كل الدول الكبرى مجرد أجزاء تسبح على “بوسفور الخلافة” المزمع تجهيزها حتى عام 2025م مثلما توقع التبشيريون في مستهل “الربيع العربي”.
وعلى خلفية ذلك تم اختصار الجنوب في مؤتمر الحوار ليصبح “اثنين على ستة”، ثُلث مُعَطَّل، يحصل على فرصة تمديد الحياة من خلال “الحبس السايكولوجي” مع الكوابيس حتى ينتحر آخر المطاف ويتلاشى على طريقة السابح في الهاوية.
في أيلول 2014م انقلب “الشمال الحبيب” على بقايا “الدولة والجمهورية والوحدة”، وعلى التاريخ و الجغرافيا، وعلى المجموعة الشمسية ودرب التبانة وعلى كل شيء في فضاء الله الواسع، وأصبح معنى الدولة والوحدة والدين والكون مرتبطا بمفهوم السيادة على الأرض، ليمتد المُلك إلى حيث تصل الرصاص، تماما مثلما كان في تاريخ السيف عند الأقوام البائدة!
وبذلك أصبح الشمال في حكم العائد إلى عرينه التاريخي، وصار في عُهدة السيد الولي الفقيه نائب الإمام الغائب… وورثته وخازني “سره المقدس”.
وهكذا أصبح على الجنوب أن يُصَلب حتى تنتهي مهرجانات الدم في كل مرة ليعود إلى سيرة الوحدة بأشكالها وأنواعها، وكأنه عروس النهر يُرمى للموت غرقاً لترويض الوحش المائي لكي لا يغمر الأرض. بمعنى أن على الجنوب أن يلازم غرفة العمليات البلاستيكية ليتم تجهيزه وإعداده في كل مرة بشكل يلائم مزاج حاكم صنعاء الجديد ونمط الوحدة التي يفصّلها في خطاباته ويرددها المنشدون في الدواوين المبخّرة بعرق الطبالين.
وما يزال فقهاء الوحدة يعتقدون أنه على الجنوبيين التريث حتى يتم النظر في أمرهم. إذ ليس أمامهم سوى إحدى المصيبتين: أن يتم إضافتهم عدداً وعُدّة إلى مهرجانات الغدير واللطميات المباركة، أو أن يصبحوا مدداً لقوافل الإخوان، حراس الفوضى، وتصبح أرضهم “ديار إيمان” ينطلق منها المجاهدون في سبيل قيام دولة الخلافة الكبرى.
يُضاف إلى الأنماط الثلاثة شرُّ البلية… من يظن أنه يستحضر دولة مدنية حديثة في المختبر، داخل زجاجات الثرثرة الحكائية وخطابات الوهم، ويسوق معها ألف من ال”ينبغيات” وضعفها من أخوات “يُفترض ويتعين”، ثم يضع موديلاته المجنحة لتطير عبر السوشيال ميديا إلى عقول “البسطاء” ليروا دولتهم الديمقراطية المدنية الموحدة باسطة ذراعيها بالوصيد… ومع إضافة بعض المحفزات البصرية تصبح مجسما افتراضيا في مخازن الباعة الإلكترونيين يمكن شحنها حسب المواصفات المطلوبة.
الواقع يعلمنا بأنه كلما اندمج المريدون في تزوير الحقائق وتطويع الواقع بالقوة كلما أخرجت الأرض حممها بتنام مضطرد وزاد الناس بؤساً وجنوناً وانقراضاً. لقد تعلمت البشرية من تواريخها وأحداثها بأن المشاريع السياسية الكبرى لن تنجح ما لم يتقبلها الواقع بثبات وتصبح قابلة للحياة.. أما اختراع مشاريع سياسية أكبر من مقاسات الواقع فذلك يعني انهيارات متصاعدة.
الحقيقة الثابتة أن الشمال (بقواه المختلفة) هو من انفصل عن الجنوب عملياً وبصورة نهائية، بعد أن سفك الدماء وتسبب في الدمار العظيم، وأقبحه دمار النفوس والأرواح وتهتُّك الروابط. انفصل بكل ما تحمله الكلمة من معان ومقاصد وبكل ما يدركه العقل البشري السليم وبكل المفاهيم الدينية والأخلاقية والسياسية. فإذا لم تكن الحروب هي أعلى درجة الانفصال فما الانفصال إذن؟
خاصة وأن كل القوى حاربت الجنوب، حتى تفرق دمه بينها، في عهدين مختلفين (1994 و2015 وما بينهما): المؤتمر والإصلاح والحوثيون وشركاؤهم. وجميعهم تتقاطع أهدافهم في الجنوب، يقاتلونه بضراوة أشد من قتال العدو الخارجي! فماذا سيأتي في تاريخ ثالث غير أم الكوارث؟؟؟
والحقيقة الموازية هي أن الجنوب على غير رغبة أهله ما يزال “يرابط” في برزخ الصبر الشاق، يتفاعل ببطء مع تعقيدات المشهد إلى “حين ميسرة”… وما يزال مسافراً يضنيه قَدَرُ الاحتمالات، حتى بعد أن أقر بصورة نهائية بأن الواقع الميداني هو وحده من سيفرض التسويات الكبرى.
ستظل حروب 94م و2015م بمحتواها الكارثي تتجدد بصورة أكثر بشاعة، إن لم يعترف الإقليم والعالم بواقع الدولتين في الجنوب والشمال وأن تستعيد كل منهما “هويتها الجيوبوليتية الثابتة”، لتتعايشا بسلام وتكامل طبيعي.. ويظل الشعب فيهما محافظاً على لحمته الروحية وروابطه الوجودية.