مبصرٌ أكثر من أبيه
سبتمبر 18, 2021
عدد المشاهدات 303
عدد التعليقات 0
مبصرٌ أكثر من أبيه
إبراهيميوسف – لبنان
انتهىمن معاينة المريض في محل إقامته، وكان يتأهب للمغادرة عندما استوقفته ابنة الرجلعلى الباب وهي تناوله غلافا، فهم الطبيب أنه يحتوي مالاً كبدل عن معاينة المريض فيالمنزل.
لكنهتبسّم للفتاة واعتذر عن قبول المال، لأن المريض صديق أبيه تعرف إليه في رحلتهالأخيرة للبلاد. ولو قَبِلَ البدل..؟ سيعتب عليه ويؤاخذه أبوه على قبوله المال..هكذا قال الطبيب للفتاة.
لكنالفتاة وقفت أمامه بإصرار، وسدّت عليه الباب وهي تنادي أباها بصوت مرتفع، لتخبرهأن الطبيب يعتذر عن قبول المال، وهكذا طلب الرجل إلى ابنته أن تأتيه بأول قلم حبرتلقاه هدية ميلاده، عندما كان يعمل مهندسا في مصنع للصلب في بريشا، أكبر مدنالإقليم منذ ستة عقود.
أتتِالفتاة بالقلم الذي أشار إليه أبوها، وهو يعرف أن الطبيب من هواة جمع الأقلام. هذهالمرة لم يبدِ الطبيب اعتراضا، فقبل القلم وشكر الفتاة وأباها باسما، ثم رفع يدهتحية لها وانصرف.
القلمألماني الهوية ويعود تاريخ صنعه إلى العام 1923، بعد الحرب العالمية الأولى بخمسسنوات؛ كان من نصيبي.. تلقيته هدية غالية من ابني وهو يزورنا في فرصة رأس السنة.
حافظتُعلى القلم وكنت أعتزُّ بحمله، لأن بحوزتي قلم حبر عجوز يناهز عمره مئة سنة خلت،حتى أتى من يزورني في مقر عملي في شركة طيران الشرق الأوسط، زميل وصديق عزيز علىقلبي هو خازم خازم، وهذا اسمه واسم عائلته؛ (خازم)2.حيث كنا نعمل معا في نفس الدائرة.
أتىيزورني ويحمل معه رسالة في الفلسفة، كان قد أعدّها في نهاية المرحلة الجامعية. وحينما قرأتُها لاحقا بناءً على رغبته؟ لم أفهمكثيرا من مضمونها إلا أنني صححت ما صادفني من أخطاء لغوية، وشكرني خازم يومئذ علىالقراءة والتصحيح، وهذا ما كان يريده مني ليس أكثر.
لكنهقبل أن يغادرني؟ أراد أن يلفتني إلى بعض مضمون الرسالة، فأمسك قلمه”البيك” ليدون ملاحظاته، ووجده ناشفا من الحبر، مما استوجبني أن أعيرهقلمي ليؤشر إلى الصفحات التي أرادني أن أهتم بقراءتها. وعندما انتهى وقبل أنيغادرني أو يعيد لي القلم؟ أبدى دهشته بنعومة ريشته الذهبية كأنها صنعت بالأمس، تكتببسهولة بالغة وتتحرك على الورق بمرونة الحرير.
وهكذاتمنيت عليه بل رجوته من أعماق قلبي بصدق لا لبس فيه، أن يحتفظ بالقلم لنفسه. لكنهرفض بردٍ قاطع وهو لا يعرف أن القلم هدية من ابني، ويجهل عمره وتاريخ صنعه ومايحيط بأمره. أعاد إليّ القلم من يده إلى جيبي مباشرة، ثم شكرني وصافحني وغادر إلىمقر عمله.
وفيفرصة الأسبوع؛ دعاني الواجب أن أشارك بتشييع راحل في بلدة زميل من نفس الدائرة.كنا قد انتهينا من واجب العزاء ونحن نتجمع في باحة المسجد، تمهيدا للعودة كلٌ منحيث أتى.
عندمادنا مني أحد المشاركين بالمأتم من أطراف العائلة. رجل متقاعد وكان يعمل في إحدىدوائر الدولة، تلك التي اشتهرت بالرشاوى الدسمة، ويمكن للعاملين فيها أن يبنوادارات وقصورا. هذه المرة ليس في *إسبانيا بل في لبنان، الذي تداعى إلى سقوط مريع بسببالفساد.
هكذاناولته قلمي ليدون ملاحظة أو رقم هاتف في مفكرته، وكانت الهواتف المحمولة يومئذ فيبداياتها الأولى. أنهى تدوين الملاحظة وقبل أن يعيد لي القلم أبدى هو الآخر دهشتهبنعومة خطه. وكان من البديهي أن أرد على إعجابه بالقول: “مْقَدَّمْ”..يمكنك الاحتفاظ به يا صاحبي.
بفعلالخفة في التعاطي والحياء غير المبرر، والأمراض الاجتماعية كالوضاعة والوصولية، وحرجيستبد بأقوالنا وأفعالنا. هكذا تورطت في ردي دون أن ألفته أن القلم هديتي من ولدي.
مهمايكن قراري صوابا أو خطأ، فقد سبق السيف العذل، وأسقط الأمر من يدي وهو يسألني أحقاما تقول؟ تأخرت بالرد قليلا حتى تغلبت علىنفسي، وحسمت أمري بعدم التراجع. فأكدت للرجل وأنا أبتسم له أنني أعني فعلا ما أقول،ولست نادما أو متراجعا عن كلامي يا صاحبي.
والرجللم يُكَذِّب خبرا فدسّ القلم بلهفة هذه المرة في جيبه لا في جيبي، ليس كما فعلخازم خازم الصديق المدرك المترفع الفطين، الذي كان يستحق بعد العشرة الطويلةالطيبة بيننا، قلما يقارب تاريخ صنعه مئة سنة خلت. صديق كريم لا تضيع به أثمنالأشياء؛ ولا قلبي يضيع معه.
ابنيالذي أهداني القلم وضاع مني بشطارةٍ رخيصة، وحياء ناتج عن تربية خاطئة للكرم وسوء تقدير؟اصطحب أخاه الأصغر إلى السوق وعمره لا يتجاوز يومئذ أكثر من تسع سنوات، فاشترى لهحلية مدهشة من الفضة، واسمه الثلاثي محفور عليها. راح يحرك معصمه ويتأملها غيرمصدق. لم تكن الدنيا تتسع لسعادته بالحلية، التي كان يحلم بها منذ نما إدراكهبإحساس الفرح.
وأتىيزورنا بعد أيام صديقٌ وزوجته. كنا نحتسي القهوة معا ونتبادل الحديث، وحسام صاحبالحلية يجلس مقابل الضيف وزوجته، وهو يقلب معصمه ذات اليمين واليسار متباهيابالسوار في معصمه، الأمر الذي استرعى انتباه الضيف حين توجه إليه قائلا: أتصدقنيلو قلت لك إنني في حياتي كلها، لم أرَ أجمل من الحلية في معصمك؟ لكن حسام لم يُجبْولزم الصمت المطبق.
عندماتدخلت زوجة الرجل تقول له: من لطيف الإجابة يا حبيبي أن تقول للحاج: “مْقَدَّمَة”.لكن حسام سارع بالرد على السيدة بعفوية الأطفال قائلاً: وماذا سأفعل لو صدَّقنيالحاج وأخذها مني؟! حسام مبصرٌ أكثر من أبيه، عندما تكون البلادة في حسن الظن، وسوءالظن من الفطنة.
إشارةللمثل الفرنسي القائل: Bâtirdes châteaux en Espagne عندما يكون الإصلاح مستحيلا.