ادب وثقافة

استبطان الذّات الرّائية في قصيدة “الدّاخل أرحب” للشّاعر يوسف الهمامي

نوفمبر 07, 2018
عدد المشاهدات 838
عدد التعليقات 0
استبطانالذّات الرّائية في قصيدة “الدّاخل أرحب” للشّاعر يوسف الهمامي
مادوناعسكر/ لبنان

-النّصّ:
الدّاخلأرحـب
سقطتُّفي السّماء
كنتأعرجُ في أرض
بلانافذة..
هناكعلى الحافّة..
أصرخُلا يَسمعني أحد
..
أمشيببطء كعادتي
أطلقبسملتي على البّاب
لكنّيلا أفتحه ..
..
الفكرةتقسو على العتبة
الإنصاتلما تقوله الاشياء
يُكلّفنيكثيراً..
..
أينالأرض..؟
الفسيلةكادت تذوي
فييدي..
لاأعرف أين أنا
غيرأنّي أتّجه إلى هناك
العثراتُأقسى
منأشواك الطّريق
**
أجثمُفي نفسي بصمت
لامحراب إلاّ في القاع الجليل
الّذييغمرني ببياضه..
..
الدّاخلأرحب
الهذيانالذي أَغْرَقَنِي
فيحكمته..
مَدَدْتُفي رحابه سجّادي
..
ماثمّة آفاق موصدة..
وراءالغيم مباشرة
تتشرّعالنّوافذ..
-القراءة:
فيدرجة متقدّمة من الاستنارة الشّعريّة، يرتدّ الشّاعر التّونسيّ يوسف الهمّامي إلىالدّاخل معلناً حقيقة أدركها بالفعل (الدّاخل أرحب) وكأنّي به يلج عمق المعنىالقائل “وتحسب أنّك جـِرمٌ صغير … وفيك انطوى العالم الأكبر”. لقد دخلالشّاعر عمق هذه الحقيقة الّتي يحياها ومن خلالها يعيد قراءة ذاته ومحيطهواختباراته. ولعلّه يخطّ سيرة ذاتيّة من نوع خاصّ تنطلق من خارج إلى داخل، لالتبيّن لنا انتقال الشّاعر من خارجه إلى داخله وإنّما يروي من خلالها يوسف الهماميمسيرته نحو الاستنارة الفكريّة والرّوحيّة.
(الدّاخلأرحب) العنوان الحقيقة المستحوذ على الشّاعر الإنسان بمعنى أنّ الشّاعر وصل إلىرتبة خاصّة في الشّعر مكّنته من ولوج العالم الدّاخليّ الّذي عاشه بالقوّة واليوميحياه بالفعل. الدّاخل أرحب ممّاذا؟ من الأرض أم من الكون أم من الشّاعر نفسه.ولعلّنا أمام المدخل إلى القصيدة (سقطتُ في السّماء) نتيقّن أنّ الشّاعر يعيدقراءة تاريخه على ضوء حضوره في لحظة نشوة شعريّة سماويّة فصلته عن كونه، فحلّقعالياً ثمّ سقط في المكان المعدّ لهذه الاستنارة. ويشير الفعل (سقطت) إلى ارتقاءسابق جعله في الأصل فوق العالم. فهو لم يستخدم لفظ (صعدت إلى السّماء) أو (رأيتالسّماء) بل يتحدّث عن فعل سقوط في السّماء. وكأنّي به يشير إلى أنّ الدّاخلالأرحب هو السّماء. فيفهم القارئ أنّ السّماء حاضرة في كينونة الشّاعر وسقط فيهاكفعل ارتحال نهائيّ وانفصال نهائيّ عن الأرض.
 
لم يكنالشّاعر غافلاً عن الحقيقة ولا يعرّف القارئ على حقيقة اكتشفها، وإنّما يعرّفه علىالقرار بولوجها. وهو يعي جيّداً أنّه كان على مشارفها فوضعنا أمام مشهدين. المشهدالأوّل السّماء الحاضرة فيه (سقطّت في السّماء) الدّالّة على التّحرّر من كلّ شيء،والمشهد الثّاني الخطوة المتعثّرة  بضعفالإنسان الّذي لم يتحرّر بعد، ما يشعره أنّه مقيّد بذاته (كنت أعرجُ في أرض  بلا نافذة.. ). النّافذة المفقودة في الأرضدلالة على الانغلاق الكلّيّ. ومن جهة الشّاعر هي دلالة على  صعوبة العيش في منطق هذا العالم (كنت أعرج).وتكمل المعنى عبارة (أمشي ببطء كعادتي ) تدلّ على سعي دؤوب للشّاعر ولكنّه سعيتنقصه الاستنارة ليعاين الحقيقة (أطلق بسملتي على البّاب / لكنّي لا أفتحه .. ).
الشّاعرأمام الحقيقة الثّابتة، يعاينها يتّصل بها بالرّجاء (أطلق بسملتي) لكنّه لا يلجهاليس لأنّه متردّد وإنّما لأنّ الوقت لم يحن بعد. الارتداد إلى الدّاخل أمر شديدالصّعوبة، ويتطلّب الكثير من التّأمّل والإصغاء إلى الصّوت العميق في قلب الإنسان.الشّاعر على عتبة الحقيقة يصغي بتمعّن إلى صوتها على الرّغم من كلّ الصّعوباتالّتي تواجهه نتيحة هذا الإصغاء الدّقيق. فالشّاعر يرى ويسمع ويعاين لكنّه محاطبأرض بلا نافذة. أي أنّه مقيّد بشكل أو بآخر بوجوده في هذا العالم. هو يحيا من جهةفي السّجن الكبير/ الكون ويحيا من جهة أخرى الحرّيّة الدّاحلية/ السّماء. وهناتتجلّى الغربة الّتي تشكّل ذروة الألم.
 (الإنصات لما تقوله الاشياء/ يُكلّفني كثيراً)/(لا أعرف أين أنا/ غير أنّي أتّجه إلى هناك) إشارات إلى وعي الشّاعر الكامل بداخلهالأرحب، لكنْ لا بدّ من السّعي لاستحقاق هذا الدّاخل. كما أنّه لا بدّ من قراريُتّخذ في اعتناق هذا الدّاخل والمكوث فيه والتّحرّر من خلاله بمعزل عن المحيط.
أجثمُفي نفسي بصمت
لامحراب إلاّ في القاع الجليل
الّذييغمرني ببياضه..
يجثمالشّاعر في السّماء حيث سقط فنفسه هي المكان الحقيقيّ الّذي يلتقي به بالحقيقة،بالسّماء، بالله. في نفسه، في عمق العمق، حيث لا حس ولا سمع ولا بصر يسكن الصّوتالإلهيّ الّذي يغمر الشّاعر ويطهّره ويحرّره ويكتبه. في هذا العمق الجليل يتحاورالشّاعر مع محبوبه الإلهيّ معتبراً هذا العمق هو المكان الأرحب المهيّأ للصّلاة(الدّاخل أرحب / الهذيان الذي أَغْرَقَنِي / في حكمته.. / مَدَدْتُ في رحابهسجّادي).
وإذاما جثا الشّاعر في سمائه اتّحد بالصّوت والكلمة وتحرّر وبلغ الحقيقة (ما ثمّة آفاقموصدة)، بل انغمس فيها واغتسل بمائها (وراء الغيم مباشرة / تتشرّع النّوافذ..).الغيم الدّال على فيض الماء وانسكابه يشير إلى لحظة خاصّة وربّما دامعة انقشعتبعدها الحقيقة ولعلّه في هذه اللّحظة المقدّسة أطلق بسملته على البّاب وفتحه.

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى