الحبّ حتّى المنتهى قراءة في ديوان “لنتخيّل المشهد” للشّاعرة اللّبنانيّة سوزان عليوان
أكتوبر 05, 2018
عدد المشاهدات 841
عدد التعليقات 0
“الحبُّلا يصنعُ المعجزات
هو،بحدِّ ذاتِهِ، معجزة” (سوزان عليوان)
يتجلّىالحبّ في ديوان “لنتخيّل المشهد”، عذباً رقراقاً كالنّدى المنسكب على وريقات الورود عندالفجر. أرادته الشّاعرة كذلك، وخلقت مفهوماً شاملاً للحبّ، اختزلته بعاشقين جعلتمنهما رمزاً لهذا الحبّ.
يلاحظالقارئ بوضوح ارتباط الحبّ عند سوزان عليوان بالطّفولة، لكنّه يأخذ الأبعادالنّقيّة البسيطة المتجذّرة في هيكليّة الطّفل، دون المساس بالنّضج العاطفيّ والعلائقيّ.فللطّفولة عند الشّاعرة أهميّة كبيرة، إمّا لأنّها تحنّ إلى استعادتها، أو أنّهاتحيي في داخلها تلك الطّفلة الّتي تاهت بحكم ظروف معيّنة أو نتيجة اختبارات شخصيّةأفقدتها الحسّ الطفوليّ. لكن لا ريب في أنّها تعرّف الحبّ ككائن طفوليّ يحمل فيذاته مقوّمات الطّفل المرادفة للبراءة، والعفويّة، والنّقاء، والخيال، والحلم…
تحكمالشّاعرة ديوانها بين قصيدة افتتاحيّة “لنبدأ بالنّهاية” (ص3) وقصيدة ختاميّة”من يكملُ الحلم؟” (ص 49). فيأتي الحدث معاكساً للنّمط التّقليديّ،لتبدأ من النّهاية وتنتهي بالحلم، أو بمعنى أصحّ، تعبّر الشّاعرة عن الحبّ الحلمالغريب عن العالم، المنفصل عنه. ترسمه لوحات استمدّتها من عالم الشّعر ومن عمقذاتها حيث يسكن إنسانها العاشق الحقيقيّ.
إذاقرأنا الدّيوان بطريقة تقليديّة من القصيدة الأولى إلى القصيدة الختاميّة، نرصدمعاناة الحبّ في هذا العالم القاسي والمرعب. فالقصيدة الأولى وإن حكت عن افتراقعاشقين، إلّا أنّها تحمل ما بين سطورهاغربة الحبّ في عالم يصعب عليه تقبّل الحبّ المتجرّد والمتفلّت من مقوّمات العالم:
عاشقانفي اللّيل.
خائفان
كدمعتين
فيعينيْ طفلٍ
مثقوبِالقلب
وردتُهُمجروحة.
معطفُهُعلى كتفيها
ذراعُهاحول عنقِهِ
يرتعشان
بردًاو عتمة
مثلَورقتيْ شجرةٍ
شبهِعارية.
المشهدقاتم وقاسٍ تدعمه دلالة الدّمعتين في عينيّ طفل، والارتعاش برداً وعتمة، لتقبضالشّاعرة على وجدان القارئ وتحرّك فيه الوعي العاطفي، فتحثّه على استدراك مشاعرالحبّ الحقيقيّ لتنقذه من قسوة العالم. وتنساب القصائد تباعاً لترسم كلّ واحدة منها رسماً فنّيّاً خاصّاً حتّىتكتمل معاني الحبّ بالمفهوم الّذي أرادته الشّاعرة، وبالمعنى الّذي يتوق إليهالقارئ من ناحية اختلاج المشاعر، وارتعاش القلب، واستيقاظ الحبّ المعجزة الّذييحوّل القارئ من مشروع إنسان إلى إنسان.
بالمقابل،إذا تمّت قراءة القصائد بطريقة معاكسة، تصاعديّة، بدءاً من القصيدة الأخيرة”من يكمل الحلم؟”، سيتعرّف القارئ إلى حلم الشّاعرة، حلم الحبّ، بلسيشاركها الحلم، إذ تفتح له آفاق إكماله. كما أنّها تدخله في عالم الأحلام،والخيال دون أن تفقد الواقع قيمته، وإنّما تهدف إلى زرع الحبّ في كلّ ذرّة منالإنسان.
فيقصيدة “زمن الوردة” (ص48)، تُدخل الشّاعرة القارئ في مشهديّة أشبهبأسطورة لتبيّن تفاصيل الحبّ، والعلاقة الوطيدة الأبديّة بين عاشقين الّتي يغفلعنها الإنسان، ليتحدّث عن الحبّ بشكل عام دون أن يهتمّ للتفاصيل الّتي ترتكز عليهاالحالة العشقيّة. وبهذا فإنّ الشّاعرة تتحدّث عن حبّ حقيقيّ خارق، يتجذّر فيالتّراب لينبت في الأعالي. ما يغفل عنه العالم قطعاً:
يُحكى
أنَّعاشقيْنِ
فيزمنٍ قديمٍ
دُفِنافي حفرةٍ واحدة.
لنتخيَّلَالمشهد:
هيكلانعظميَّان
مُمدَّدانجنبًا إلى جنبٍ
كما لوأنَّ الترابَ سريرٌ من عشبٍ
والدودَالذي ينهشُ اللحمَ الباردَ
فراشاتٌتنقلُ القبلاتِ في رحيقِها.
هلقُتِلا؟
انتحرامعًا؟
أمأنَّهُما من ضحايا الكوليرا؟
الزّمنالقديم يعود بالحبّ إلى أصوله الأولى، والدّفن في الحفرة الواحدة، يرمز إلى أزليّةهذه العلاقة العشقيّة الّتي لا تسقط حتّى وإن احتضنها التّراب. بل وكأنّ الشّاعرةتبرز المعنى المتجدّد الأبديّ للحبّ، وتسكبه في إطارٍ قصصيّ خياليّ لطيف، يحوّلالفناء إلى حياة (الترابَ سريرٌ/ الدّود فراشات). لكنّه في ذات الوقت يطرح تساؤلاتعدّة، ويكشف سذاجة العالم، استهتاره، اهتمامه بما لا فائدة منه بدلاً من الاكتراثوالاعتناء بالتّبشير بالحبّ:
تجاهلَالرّواةُ
عبرَالعصورِ
هذهالتّفاصيل العابرة
لتسطعَ
فيالحكايةِ
وردةٌحمراء
نبتَتْ
منالتّرابِ الّذي احتضنَ العاشقيْنِ في عناقٍ أخيرٍ
جذورُهاعظامُ أصابعِهِما
المتشابكةُفي الموتِ
كما فيالحياة.
لايحتاج الحبّ إلى طرح إشكاليّات وجدليّات وشروحات نظريّة. يكفي التأمّل بوردة حمراء منسيّة حتّى تفيض معاني الحبّودلالاته في تفاصيل يعتبرها العالم عابرة، إلّا أنّها ذات دلالات عميقة:
بعدَألفِ عامٍ تقريبًا
منزمنِ الوردة
وفيزاويةٍ صغيرةٍ من جريدة
خبرٌعن طائرةٍ تحطَّمَتْ
عنعلبةٍ سوداء مفقودة
عنغوَّاصٍ من فرقةِ الإغاثة
عثرَ
فيأعماقِ البحرِ
على مايُشبِهُ وردةً حمراء:
يدانمتعانقان
انفصلتاعن جسديْهِما
دونَأن تنفصلَ الواحدةُ عن الأخرى
دونَأن يفترقَ العاشقان.
يأخذالحبّ عند سوزان عليوان بعداً إنسانيّاً شاملاً، فلا يتحدّد في علاقة بين شخصين،بل ينطلق من الشّخص إلى المحيط. ويُظهر الأعماق الإنسانيّة الّتي يعوزها أن تحبّلتعاين الجمال، وتشعر بالآخر، وتتلمّس العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسانوالطّبيعة وجميع الخلائق. فيرتقي الإنسان وتسمو المعاني الإنسانيّة، ويحيا النّقاءوالصّفاء:
لأنَّهُيحبُّها
يصعدُ
كُلَّليلةٍ
علىسلالمِ العتمةِ
بقدميْنِحافيتيْن
خشيةً أن يدنِّسَ السماءَ بحذاءٍ
لا ينزلُ
إلاَّوالقمر في يدِهِ
رغيفًايفتِّتُهُ
علىشكلِ كواكب ونجوم صغيرة
دونَأن يهدرَ حبَّةَ قمحٍ واحدة
ولئناحتلّ الحبّ هذه الرّتبة في عليائه واستحال قوتاً ضروريّاً للعالم (القمر/الرّغيف)، امتدّ إلى الكون بأسره ليشبع النّفوس الجائعة:
بالتّساوي
بالعدلِالذي لا تعرفُهُ سوى أصابع عاشق
يوزِّعُكعكاتِهِ الدّافئةَ
علىأطفالِ الشّوارع
علىشبابيكِ النّائمينَ دونَ عشاءٍ أو أمل
علىالكلابِ والقططِ الضالَّةِ أيضًا.
فيالحبّ يتجلّى مفهوم العدالة، والرّحمة، والخلاص. لا بدّ للكون بأسره أن ينغمس فيالحبّ كي يخلص، كي تتحقّق فيه العدالة والحرّيّة لأنّ الحبّ لا يحابي الوجوه،ينطلق حرّاً باذلاً ذاته مجّاناً:
فقط
لأنَّهُيحبُّها.
منأحبَّ إنسانًا
أحبَّالناسَ جميعًا. (كواكب و نجوم من قمح/ ص 12)
بالحبّترى ما لا يُرى، وتدرك معاني الإنسانيّة الأصيلة، وتستخرج الجمال من القبح، أو ماتعتقده قبحاً. ذاك ما رآه طفلان صغيران متعانقان في متسوّلٍ بعينين مفقوءتين،يتوسّل نظرة حنان واحدة:
وحدهماالولد والبنت المتعانقان
ضفيرةًمن لحمٍ ودم
تحتَمظلَّةٍ ملوَّنة
وضعا،برفقٍ، في ثقبيْهِ العميقيْنِ
قطعةًمن الخبزِ المُحلَّى
وكمشةَزبيبٍ وياسمين
متوهِّميْنأنَّهُ شجرةً
وأنَّتجاويفَ جمجمتِهِ
– هذهالتي تقرفُ الناسَ
وترعبُالأطفال-
أعشاشَعصافير.
ذاك مايعوز كلّ إنسان ليكون إنساناً، وهو أن يعود طفلاً. وحدهم الأطفال ينفتحون علىحقيقة الحبّ، ويسمحون لها أن تتسرّب إلى قلوبهم دون فلسفة الأشياء. ببساطةوتلقائيّة، يحتضنون الحبّ في قلوبهم ويعكسون صورته على العالم. هم فقط يفهمون معنىالمعجزة، يدخلون في سرّها ويحبّون حتّى المنتهى.