آمنة النصيري ابنة اليمن التي حلمت بمجده
مارس 11, 2018
عدد المشاهدات 885
عدد التعليقات 0
المرأة في اليمن هي، بالنسبة لمَن لا يعرف ذلك البلد القديم، لغز لم يفصح عن نفسه. لذلك كان ظهور آمنة النصيري رسامة وكاتبة ضروريا من أجل شيء يقع إلى جوار الجمال الذي درست فلسفته.
وإن اعترضت النصيري على تلك الصفة فإنها رائدة لنوع فريد من التفكير في الرسم ومن خلاله. فالفنانة التي وجدت نفسها تقف أمام إرث من الرسوم التي وظفت الحداثة في خدمة التراث الشعبي لأغراض سياحية وقع عليها واجب أن تعيد الرسم إلى طريقه التي تقود إلى الجمال الخالص.
قوة البيت وإلهام المرأة
ولعها بالعمارة الطينية التي تتميز بها بلادها وهبها قوة مستلهمة من تلك الأبنية التي تزينت بالفن الراقي لتقاوم الزمن. حفيدة بلقيس لا ترى في زينتها شيئا من الاستعراض الاستشراقي.
لوحاتها تضج بالنساء، لكن النصيري ترفض أن تلحق بالحركة النسوية. في المقابل فإن كل ما يظهر في لوحاتها من غزل بالمفردات الجمالية التي تتشكل منها عمارة البيت اليمني لم يقدها إلى الوصف باعتباره ضالة لتذكير السائح بما رأى في البلد العجيب
إنها تفعل ما تراه مناسبا ليمنيتها. ذلك الشعور يسر لها الولوج إلى مناطق خفية من الحياة في ذلك البلد ــ المتاهة. كان لديها مفتاحان للدخول إلى غابة الأسرار اليمنية. المرأة والبيت.
وإذا ما كانت لوحاتها تضج بالنساء فإن النصيري ترفض أن تُلحق بالحركة النسوية. في المقابل فإن كل ما يظهر في لوحاتها من غزل بالمفردات الجمالية التي تتشكل منها عمارة البيت اليمني لم يقدها إلى الوصف باعتباره ضالة لتذكير السائح بما رأى في البلد العجيب.
ثورتها على ما كان سائدا من تقاليد فنية وضعتها في المكان الريادي الذي يليق بها كونها أخلصت للحداثة الفنية مثلما كانت وفية لصورة الأم التي ألهمتها حب الفن والكتابة.
آمنة هي ابنة أمها على المستوى الثقافي. كانت أمها تهوى الرسم والكتابة وتؤمن بالتعليم. وهو ما يسر لآمنة شق طريقها في مجتمع ذكوري صعب التضاريس.
المنفتحة على تحولات الفن
لقد تحررت الفنانة من عقدة الحصار الذكوري بتأثير مباشر من الأم الخالدة في حياتها وهو ما جعلها تميل إلى اللجوء إلى استعمال مفهوم الكائن البشري للتعبير عن حضور المرأة في أعمالها.
النصيري ولدت في مدينة رداع، بمحافظة البيضاء، عام 1967. وإن كانت لم تقم فيها طويلا، حيث انتقلت إلى صنعاء، فإنها كما تقول جزء من تناقضات تلك المدينة التاريخية. “لقد اكتسبت الكثير من أمي التي جاءت من منطقة شرسة وعريقة. مازال في ذهني منظر اللائي يصنعن الفخار ويمارسن التطريز الشعبي. من ناحية أخرى فإن دراستي في الخارج وفرص السفر التي حصلت عليها منحتني الفرصة لكي أقف وسط العالم”.
أقامت في مصر أربع سنوات لتعود بعدها إلى اليمن وتكمل تعليمها الثانوي. التحقت بجامعة صنعاء ودرست الفلسفة لخلو الجامعة من كلية للفنون.
سافرت إلى موسكو في منحة دراسية وحصلت على شهادة الماجستير من أكاديمية الدولة للفنون، سوريكوف، عام 1994 وفي عام 2002 نالت شهادة الدكتوراه، وكانت فلسفة الفن وجمالياته محور دراستها، وهو ما أهلها لموقعها الأكاديمي الحالي أستاذة لفلسفة الفن في جامعة صنعاء.
أقامت النصيري أكثر من ستة عشر معرضا شخصيا، كان أولها في بغداد عام 1986. من بين تلك المعارض يعتبر معرضها “حصارات” عام 2010 الأبرز من جهة موضوعه والتقنيات المستعملة في إنجاز أعماله.
كان ذلك المعرض خطوة غير مسبوقة يمنيا في مجال الفنون البصرية المعاصرة حيث أفصحت الفنانة من خلاله عن انفتاحها على تحولات الفن والفكر في العالم، إضافة إلى أنها أعلنت عن انفصالها التام عما هو سائد من تجارب تشكيلية.
موضوعات النصيري ما كان أحد من رسامي بلاد مجاورة يجرؤ على الاقتراب من طابعها التشخيصي وفضائها النقدي. وهو ما يعني أن المجتمع اليمني لم يكن قد دخل في متاهة التحريم والتحليل في موقفه من الرسم
النصيري كاتبة. ليس حدثا مفاجئا أن تكون كاتبة وهي التي درست جماليات وفلسفة الفن. غير أن ثقتها بالفن ووظيفته في تغيير المجتمعات كانا دافعين رئيسيين للكتابة النقدية في الصحف عن الفن.
يلخص كتابها “مقامات اللون” فلسفتها وطريقة تفكيرها في الفن. قبل أن تقيم مرسمها “كون” كانت قد اشتركت مع عدد من الفنانين في تأسيس اتيليه باب اليمن. الذي كان بمثابة إعلان عن ولادة فن وجيل فني جديدين في اليمن.
تقول النصيري “ساعدني عاملان. الأول هو عائلتي، حيث كانت والدتي امرأة متعلمة وتؤمن بأهمية التعليم لكل من المرأة والرجل. والعامل الآخر يرتبط بالفنون الجميلة نفسها.
في اليمن تعتبر الفنون الجميلة موضع تقدير أكثر من غيرها من الفنون، مثل الغناء والتمثيل”. وتضيف في جملة صادمة حقا “طوال مسيرتي الفنية لم أواجه أي مضايقات من المجتمع”.
النظر من الداخل
فنانة وأكاديمية بحجم النصيري لا تقول تلك الشهادة مجاملة لأحد. لقد رسمت موضوعات ما كان أحد من رسامي بلاد مجاورة يجرؤ على الاقتراب من طابعها التشخيصي وفضائها النقدي. وهو ما يعني أن المجتمع اليمني لم يكن قد دخل في متاهة التحريم والتحليل في موقفه من الرسم.
ألق الألوان لهدم جدار الخوف
ألق الألوان لهدم جدار الخوف
لقد كان مناسبا للمرأة التي عاشت في موسكو زمنا طويلا أن تعيد صياغة علاقتها بالمكان متأثرة بما صارت تؤمن به من أفكار حداثوية.
لذلك فإن أعمالها لا تنطوي على فكرة تجميل الواقع فاليمن الجميل بالنسبة لها ليس مجموعة الوصفات الجاهزة التي تلمع لها عيون الأجانب. أهمية النصيري في المحترف الفني اليمني أنها اكتشفت يمنها وقدمته بطريقة مختلفة. هناك دائما شيء ما، شخصي في لوحاتها.
شيء يذكر بها كما لو أنه دليل للنظر من الداخل وهو عنوان أحد معارضها. فحين تدعو الرسامة اليمنية إلى النظر إلى الداخل فإنها تمزج بين تجربتين عزيزتين على نفسها. تجربة انغماسها في شغف استثنائي انفتحت من خلاله على جماليات بلادها عبر العصور وتجربة حريتها في الحكم النقدي على الواقع وهو ما تعلمته أثناء سنوات إقامتها الطويلة في موسكو.
ما يرفع من شأنها أنها تظل لغزا يمنيا. هي واحد من ألغاز ذلك البلد الذي لا يزال يقيم في كنوزه الحضارية بالرغم من أن الحروب أهدرت الكثير من رفعته. رسومها هي بمثابة خارطة لتضاريس النفس البشرية التي انتصرت عليها الحكاية.
الحكاية التي عصفت بتجريدها
النصيري التي انتقلت إلى التجريد لم تكن رسامة حكايات، بالرغم من أن كل امرأة رسمتها كانت أشبه بشهرزاد معاصرة. لم تكن الحكاية في حد ذاتها هدفا للرسم إذا افترضنا أن هناك حكاية من الأصل. ما سعت إليه النصيري عبر مراحل سيرتها الفنية هو الرسم، فعلا خالصا.
لقد حررها الرسم من هويتها الضيقة وهي من خلاله تلمست الطريق إلى حريتها المطلقة. هناك علاقة شائكة بين آمنة والرسم نتجت منها حقائق مختلفة عن الحياة والفن بالقوة نفسها.
آمنة النصيري رمز وطني يمني. امرأة وهبت الرسم في بلادها قدرا لا يُستهان به من الأنوثة. صارت المرأة معها فاعلة وليست مجرد موضوع. غير أن ما فعلته من خلال رسومها التجريدية أحدث نقلة نوعية للفن في بلادها.
ما كانت تبشر به الفنانة على المستوى النظري من خلال دعوتها إلى تذوق الجمال باعتباره هدفا صار موضوع لوحاتها التي ترغب في أن يكون جمالها المجرد أساسا للحوار مع جمهورها.
صار على المرأة التي تثق بيمنيتها ولا ترغب في مغادرة بلادها بالرغم من ظروف العيش السيئة أن تخترع يمناً، هو المعادل الفني الذي يجمع الأزمنة كلها في سلة الجمال.العرب