ابستومولوجيا النص بين التشكّل والتجاوز
أكتوبر 08, 2018
عدد المشاهدات 880
عدد التعليقات 0
ابستومولوجيا النص بين التشكّل والتجاوز
نموذج من السرد التعبيري ونص لـ كريم عبد الله
الناقدة والتشكيليّة التونسية : خيرة مباركي
توسّعت دائرة الشعريّة العربيّة بفضل ما يظهر على الساحة الأدبية من أشكال فنيّة تتجاوز حدود جنسها لتنفتح على العديد من الأجناس والفنون الأخرى , ولعلّنا بهذا نتجاوز حدود النص إلى تناص شكلي وبنيوي يجعل منه كيانا مراوغا زئبقيّا لا تدركه الحدود والقواعد . نص يعلن العصيان ليتحرّر من كل القيود ، مخاتل يثير الحيرة والقلق بما يظهر من تداخل بين الأشكال الفنية كالماء يجري بإبستيميّة متحرّكة حيّة تعانق المطلق في الإبداع وتبني صرحا جديدا يعاند الصّروح ويثير الإشكال تلو الإشكال . هاهنا تكمن رغبة الخلق والإنشاء. ما كاد القارئ العربي يستفيق من صدمة قصيدة النثر بما تثيره من إشكالات وما تطرحه من تساؤلات حتى تعترضه السردية التعبيريّة فإذا نحن أمام بعث جديد بما تحمله من مخاضات النشأة وعسر الولادة ولكنه المولود مهما تعسّر أمر تمييز جنسه أو تسميته ، هو كيان ، مخلوق يحدّد وجوده بمقدار ما يفرزه من خصائص النوع الأدبي وقوانينه وقواعده الثابتة ، على مستوى الكتابة الأدبية وقراءتها ونقدها ..ولكنّه وجود عصيّ على التمثّل ، منفتح حدّ العصيان . في سرديته احتمال الحكاية وفي مشاهد التصوير والتعبير جنوح إلى الشعر والشعريّة وبين السرد والتعبير انفجار الحس فإذا نحن بين سرد الحكاية وحكاية السّرد . السارد محلّق في عوالمه النائية يداعب الحلم البعيد وينشد أغنيته التي لم تولد بعد من سديم المعني بين شهقة الحسّ ونزوع النفس . والمسرود كينونة لفظ وعمق شعور . إنه نص كريم عبد الله ” خيط أشهب .. عند ضفاف الرّوح ” عنوان هو بداية الحكاية ولم يخبر عن متنه كعادته إنما اختزله اختزالا إذا ما انطلقنا من السطر الرابع الذي يعلن عن وظيفة الإسناد حيث مثل مبتدأ غاب خبره بل ناب عنه البياض والصمت في تتالي النقاط الدالة على ذلك وهو صمت لا ينتظر من القارئ البحث عنه لكنه يعلنه في المتن هو خيط أنثاه الأشهب ، من سناها الذي رتّق نهاراته المتشظية . فارتفع به عن زمنه النسبي الميقاتي إلى زمن آخر يهتك أطلس الأيام ويموج في تواريخ لا شرعيّة من أحلام فارّة و ليل بالهواجس مسكون ويوم بالجراحات مكسور . قد يولد المحكي ولكنّ تغيب فيه الحكاية فيأخذ السرد فيه حلة أخرى يلتفّ بسواد الأسطر المتتابعة التي تعبّر عن دفقة شعورية أشبه بالأحلام حين نسعى لاقتناصها عند الصحو فنعيد ترتيبها من جديد . يستثمر فيها صاحبها طاقة قصصية ولكنه سرعان ما يفارقها أو لعله يتهيّأ لنا حين يتحرّر من حرفيّة الواقعة أو تسلسلها المتني ويهبها بناء سرديّا جديدا . هي أشبه بالحلم أو لعلّها أضغاث أحلام مبعثرة في لوحات وصفيّة موزعة توزيعا منسجما بين أسطر متتالية ومتتابعة وبين بياض يجعل السطر أشبه ببيت مشطور بين صدر وعجز. وهذا البياض قد لا يكون فعلا بريئا أو عملا محايدا أو فضاء مفروضا على النص من الخارج بقدر ما هو عمل واع . لعلّه الهواء الذي يتنفسه النص كما ذهب إلى ذلك بول كلوديل Paul claudel أو لعلّه دال بصريّ يوجد مساحة للصمت تغور في أعماق النفس الناطقة لتعبر عن انفعالاتها وحالاتها المضطربة المتوتّرة لحظة الكتابة . إنّها لحظة فارّة من زمنيّتها ، متفرّدة متلاشية في مساحة الصمت كالاحتضار . ويكون الصمت مثل الزمان والمكان مجرّد احتمالات بين الانقضاء والانفصال. فإذا بنا أمام تشكيل جديد لا يأخذ فيه السرد شكله المألوف بل يتحوّل معه النص إلى كائن حي يرتب عناصره في زمن خاص ملائم للحظة الإبداعيّة وما تتسم به من حالات شعوريّة متغيّرة . هو زمن مفتت تعلنه المراوحة بين الماضي والحاضر والمستقبل فإذا بالزمن أزمنة متوترة توتر الناطق ، متشظية تشظيه بين أحلام ترمم جراحاته وتلفّه بخيوط الفجر ، تفتّق شرنقة تعيد لثغره أخيلة الشهد ، وبين أشرعة تائهة لنهارات بائسة يهيّجها القلق . وقد انطلق الشاعر في لوحة أولى مثلت حركة زمنية هي حركة الحاضر ارتبطت بحركة ارتداد إلى الزمن الماضى عبر الذكرى لنقف إزاء زمن متغير مسكون بالهيام والعشق حتّى لكأننا نواجه أطلالا جديدة :
” تتخفّى خلف نبض البنفسج تتمايل في أغصان كآبتي ….وبنكهة الحبر الصيني تحفر ليلي المسكون برقّة الهيام … كلّما تمرّ غيماتها في الذاكرة تبتهج الجذور برقّة الأصابع…”
فإذا هي تنبجس من سديم أو من لوح محفوظ يعود إلى ملحمة الخلق الأولى وزمن البدايات، إلى الفراديس الآفلة التي تسقط في حركة نزول إلى الواقع فتغدو حركة الارتداد من الماضي إلى الحاضر المعادل الموضوعي لحركة النزول من السماء إلى الأرض . ويتحول معهما السياق من الإيجاب إلى السلب ومن المقدس إلى المدنس :
“خيط أشهب من سناها خاط نهاراتي البائسة….كحل نافذة ثقبتها قرنفلة في عصر يوم مكسور….عند ضفاف الرّوح تغني بانتظار تدفق الأنهار……..”
وهاهنا يرتبط الحاضر بالماضي ، فإذا بنا أمام الماضي السردي الاسترجاعي واستدعاؤه هو استدعاء الأسطورة عبر الإيحاء من خلال استدعاء أشياء لازمة لها دلت على زمن الخصوبة أو لعلها الفردوس المفقود ( البنفسج ، أغصان رقة الهيام ، غيماتها ، تبتهج الجذور ..) وذلك في ضرب من التداخل وهو ما يؤكد مرّة أخرى على صورة الحلم الذي يفقد كل مقومات المنطق في هذا التداخل بين الزمنين وكأنه محكوم باللاوعي . قد يحيلنا السياق إلى صورة الأنثى التي اكتسحت عالم الشاعر في لحظة بائسة لتنتشله من عالمه المأزوم وتحلّق به في آماد قصيّة لا يدركها سوى وجدانه ولكنها لحظة آفلة من الزمن الآيل إلى السقوط والانكسار فتغدو الأنثى صورة ذهنية للحظة التي تقترن بالزمن المكسور فتتحول من سعادة يقتنصها الشاعر تتدفق الأنهار بإحساسه بها ويعيش جنته الموعودة إلى غيمة تمرّ في ذاكرة مثخنة بالأحزان يقتلها الانتظار . ثمّ يتحول في حركة جديدة إلى لوحة ثانية هي حركة التطلع إلى الزمن الآتي والمستقبل فيتحوّل من الحاضر الآني أو الزمن المتواقت ولحظة التلفّظ عبر الأفعال المضارعة إلى استشراف الآتي عبر الحلم وذلك بواسطة الأفعال التي تهيئ زمنيّا الامتداد في المستقبل عبر سين التنفيس المقترنة بالفعل المضارع ثم من خلال دلالة الاستفهام على معنى الطلب الذي يطلب تحققه في المستقبل القريب :
” من سيردم جرحا يتجسد راكضا يهيّج القلق …يرتمي على وسادة الحلم يفتك
بالفجر…إلّاك راهبة تفتّقين شرنقة تعيد لثغر كأسي أخيلة الشهد …..؟
كما يتحقّق بالمعجم الدال على الزمن القادم :
” تعازيمك ترقّ تواريخي القادمة وتهلّ مزاميري في كفيك ….بين أنفاسي تتفتّح تؤطّر تهتّك أطلس الأيّام .. تتعهدني على حبل غسيلها تنشر كلّ جرح عتيق .. ولها في مرآتي ثمارا تتوحّم تخضّب ليلي الطويل .. ”
وهاهنا تتشكل صورة الزمن عبر أفعال دلّت صيغتها على معنى الاستشراف وكذا دلالاتها الاصطلاحيّة ، فلئن دلّ النعت ” القادمة ” على الاستقبال فقد دلّت كل من تفعّل وفعّل ( من خلال :تفتّح وأطّر وتهتّك وتوحّم ) على معنى الحركة والمجاهدة من الحاضر واستمرارها إلى المستقبل . وفي ذلك تحول من حالة إلى حالة أخرى لعلّها الولادة بعد المخاض . بذلك ترتبط هذه الأنثى بمعنى الانبعاث والتجدّد على مستوى الحال . قد تكون عشتاره المأمولة التي تتوحّم لتخضّب ليله الداجي برائحة الحناء . وهاهنا تتراءى لنا صورة تنبني عبر الإيحاء وتتولّد منطقيا في أذهاننا فنقتنصها من رقادها . هي صورة الجنة المخصبة بأخيلة الشّهد ، وعشتاره راهبة من خضرة زاكية تغني على ضفاف الرّوح تنتظر تدفق الأنهار حتى تخيط نهاراته البائسة وهو المصلي في محرابها يرتمي على وسادة الحلم ويرتقها حلما على نصوصه الذاوية بنكهة الحبر الصيني ورنّة الهيام ..
بكل ذلك يقترن المستقبل بزمن الأحلام والرؤى . الجنة الموعودة ويستحيل الخطاب تبتّلا وإنشادا صوفيّا وتغدو بكل ذلك الأنثى بمثابة المعبود لعلّها آمال الشاعر المجردة التي يجسدها بسرده التعبيري حبيبة يشتاق إليها أو لعلها الحياة التي تشقيه ويرتبط بتلابيبها وهاهنا يتماهى التصوير بالتعبير في القول فيتماهى المطلق في المحدود وتلك لعبة الشاعر حين يجتاح حالته الشعورية التعبيرية ليكسّر سلطة السرد بتمرّد الحسّ الإنساني فنستحضر بذلك المدرسة التعبيرية في الفن التي تستهدف التعبير عن الأحاسيس والمشاعر والحالات الذهنيّة التي تثيرها الأشياء في نفس الفنان فتتلاءم مع ذاتيته المفرطة التي ترفض مبدأ المحاكاة ليعيد تشكيل الواقع من جديد وفق رؤيته الخاصة . وهو يعيد ترتيب الزمن ويغدق عليه من وجدانه ما يثير الذهول بلغة عاتية تمارس سلطتها الرمزية وتنفتح على إمكانات جديدة للتعبير تفارق سياقاتها اللأصليّة بانزياحات اختلافية Ecarts différentiels فما معنى أن يفتك الحلم بالفجر ؟ هذا التشكيل السردي يحيلنا على جملة من المفارقات وهي في هذا المثال ضرب من الاختلال في العلاقات المنطقيّة بين عناصر الصورة إذا ما جمعنا علاقة المسند بالمسند إليه ، ففي فعل يفتك مجاز استعاري يشبه فيه الحلم بالحيوان المفترس ولكن المشبه به غاب وحضر شيء من لوازمه وهو فعل الافتراس وهو ما يطمس العلاقة الأيقونية بالمرجع حيث يتجاوز الحلم دلالاته الأصليّة في التعبير عن كل ما هو جميل ومأمول ومنشود ليغدو سببا للموت والقتل ويتعمق هذا المعنى من خلال علاقة الفاعل بالمفعول به وهو الفجر . وعادة ما يقترن هذا الأخير بالحلم والحياة والانبعاث لكنّه يغدو طريدة حلم شرس ولعلّها خصيصة أخرى من خصائص المدرسة التعبيرية وهي تشويه الواقع ورسمه على شاكلة مختلفة وفق تصوّر الفنان . والأمثلة كثيرة للتصوير والتعبير اللذين يتجهان اتجاه الغرابة تجعل للنص حركة أخرى مع القارئ فيخرجه من سكون التلقي إلى فاعليّة التأويل ممزوجة بحيرة البحث حين يروم البحث عن الانسجام الذي يتخفّى وراء التنافر والتقابل . لقد تشكلت هذه اللوحة على زمن المستقبل الذي يرغب أن يتجاوز به الآني والمتواقت وهو ينتظر مواسم الدفء . ولكنه سرعان ما يعود إلى الماضي :
” بالترمّل كانت الصفحات تتدرّج متكئة …أنين الاشتياق بين ينابيعها يتمركز في ذهول …والحسرة الطائرة في فضاءاتها تلمّ الأسى الأشعث …. وجهها المنحوت في بريق أحلام هزيعي الشائك … في أخاديدي البعيدة غفا منتظرا موسم الدّفء … ”
الحق أن هذا المقطع لا يستسلم لقارئه بيسر . يخاتلنا الناسخ ” كان ” الذي يدل على سرد استرجاعي يتذكّر فيه الماضي ولكن السياق يحول دون هذا المعنى فنقف إزاء زمن غائم لا ظلال فيه يوهمنا به ثم يتجاوزه ويعيد ترتيبه في ذهنه وفق حالته الشعورية الراهنة والمتواقتة ولحظة التلفّظ . بهذا فالزمن يفقد شرعيته أمام وجدان الشاعر وهو لعبته في المخاتلة ينتقل بمقتضاه المعنى إلى مدلول جديد ناشئ عن السياق وهو أشبه بالزمن النفسي الذي تربطه بالذات علاقة حلولية . يصبح الزمن حالة شعورية لا علاقة لها بالتاريخ تتجاوز البعد الميقاتي إلى أبعاد ذهنية تصوريّة .. وهذا من مظاهر التجريب الفني الذي يتجه في اتجاه الانزياح باللفظ والفعل الإبداعي على السواء وخاصة في تشكيل الصورة وهو الصراع بين بلاغة البيان وبلاغة الغموض في النص الحديث تنافس فيه اللغة الصورة المتخيّلة وتلتقي فيه كل الفنون فتفتح أشرعتها للانطلاق بعيدا نحو عوالم الإبداع والتميز .
النصّ :
خيطٌ أشهبٌ …. عندَ ضفافِ الروح
تتخفّى خلفَ نبضِ البنفسج تتمايلُ في أغصانِ كآبتي ……/ وبنكّهةِ الحبرِ الصينيّ تحفرُ ليليَ المسكون بــ رنّةِ الهيام …/ كلّما تمرُّ غيماتها في الذاكرةِ تبتهجُ الجذور بــ رقّةِ الأصابع …
خيطٌ أشهبٌ مِنْ سناها خاطَ نهاراتي البائسة ……/ كحّلَ نافذةً ثقّبتها قرنفلة في عصرِ يومٍ مكسورٍ …./ عندَ ضفافِ الروحِ تغني بإنتظارِ تدفقِ الأنهار …..
مَنْ سيردمُ جرحاً يتجسّدُ راكضاً يهيّجُ القلق ………. / يرتمي على وسادةِ الحلم يفتكُ بــ الفجرِ …./ إلاّكِ راهبة
تفتّقينَ شرنقةً تعيدُ لِثغرِ كأسي أخيلة الشهد ………… ؟
شوقٌ يتطايرُ منْ نارٍ تأكلُ خضرة زاكية …/ بعيداً أشاحت زينة قيعان تغطّي سوءة تخوم تماثيل ……………… / بـــ تعازيمكِ ترقُّ تواريخي القادمة وتهلُّ مزاميري في كفيكِ ……
بينَ أنفاسي تتفتّحُ تؤطّرُ تهتكَ أطلس الأيام …/ تتعهّدني على حبلِ غسيلها تنشرُ كلّ جرحٍ عتيق …./ ولها في مرآتي ثماراً تتوحّمُ تخضّبُ ليلي الطويل …
بــ الترمّلِ كانت الصفحات تتدرجُ متكئة ……/ أنينُ الأشتياقِ بينَ ينابيعها يتمركزُ في ذهول …/ والحسرةُ الطائرة في فضاءاتها تلمُّ الأسى …
وجهها المنحوت في بريقِ أحلامِ هزيعي الشائك …/ في أخاديدي البعيدة غفا منتظراً موسم الدفءِ …../ نامَ على المروجِ متفتحاً يتغشى نصوصي الذاوية ………/ فتنبضُ من جديدٍ وتسوقُ نجومها تسبحُ في خلجاني ….
كريم عبدالله
بغداد
العراق