رَوَافِدْ لم تَنْشَفْ بَعْدْ إبراهيم يوسف – لبنان
نوفمبر 28, 2018
عدد المشاهدات 875
عدد التعليقات 0
أنا يا عصفورةَ الشّجنِ مثلُ عينيكِ بلا وطنِ
أنا لا أرضٌ ولا سكنٌ أنا عيناكِ هما سَكني
من حدودِ الأمسِ يا حلماً زارني طيراً على غُصُنِ
أيُّ وهمٍ أنتَ عشْتُ به كُنْتَ في البالِ ولم تَكُنِ
علي بدر الدين
العينُ مرآة اللهِ في الخلق
كاشفةُ أسرارِهم وخبايا عقولِهم
والكائنات التي تعيشُ على القِمم
تعاشرُ الشمسَ والغيمَ والرِّيح..؟
تُحبُّ الله وتهوى شقائقَ النّعمان
وجيرة العصافير
وتستلهمُ قلبَ الإنسانِ في عينيه
وأنتِ يا صديقتي كاتبةٌ موهوبة
تعجنُ المفردة بخيالِها الخصب
وتعصرُ خمرَها مواسمَ نشوةٍ وأفراح
من كروم كفريَّا أو كسارة.. دار السلام
وتقدمها نبيذاً مُبْهِجاً
في عتمِ الغربةِ والوحشةِ والحنينْ
ولئن كان للشوكولا سحرُ المذاق
وهي تذوبُ في الفَمْ
وتضفي متعة على سائرِ الحواس؟
فإن “روافد القلب”..؟ له خصائصُ الشِّعرْ
ونكهةُ الحلوى بجودةٍ عالية
فكاتبتُه تتميّزُ بدقَّةِ المفردة
ووهجِ الإحساسِ العميقْ
ولا أحسبُني أنصفُها بتعقيبٍ مقتضبْ
مهما اجتهدتُ فيه؟ يبقى قاصراً عن التعبير
وأٌقلّ من أن يفيكِ حقَّكِ
مما في خاطري من الشكرِ
وخالصِ المودّةِ والتقديرْ.
شكراً على فطنتكِ في الإشارة إلى كليلة ودمنة، وبيدبا الحكيم ودبشليم الملك، ولو كانتِ المقارنة مجحفة للغاية، كما الفارق بين النّقطة والمحيط، ونحن نعيشُ في عالم تحكمُه المصالح، وسلطة المال فيه لا تقلُّ عن الحنكة في تطويعِ الكلمة ودِقّة التعبير. والشكرُ الآخر للإشارة الملفتة إلى “ديدال وإيكار”، “وأريادني” المسعفة من متاهة “كريت”، التي امتدَّت سطوتُها ونفوذها إلى الخطوط السِّلكية عبرَ البر والبحر، وسرعةِ الاتصالات في حقبةٍ لم يمضِ عليها زمنٌ طويل.
ولا أكتمُكِ دهشتي وإعجابي ومودَّتي واحترامي الشديد، لغزارةِ معلوماتِك وأنتِ شابة حديثة العهدِ بالدّنيا، وهذا الاطلاع الواسع على الحكايا وتاريخ الأساطير، مما لا زالَ يغريني كما أغراني في الزّمن القديم. والشكرُ الأخير على الإرادة الطموحة الطيِّبة والجهد المبذول، لتجدي لنفسكِ مكانة مرموقة على صفحاتِ المواقع والمجلات، تليقُ بنجاحكِ وإصراركِ وهذا التّحدي العنيد.
كنتُ على أطرافِ الماضي البعيد، أساعدُ ابنتي في شرحِ أمثولة فرنسيّة. اللغة الثانية المُعتمَدة في مناهجِنا الدراسية، بتأثيرٍ من ثقافة الانتداب الفرنسيّ المنكود. وكان الدرسُ يتناولُ رحلة أوديسيوس من أبطالِ طروادة، وما عاناه من الأهوالِ على يديّ بوسيدون، في طريقِ عودتِه إلى موطنه إيتاك، مروراً بجزيرة كاليبسو وحكايتِه معها تمعنُ بالاستبدادِ بعواطفِ ضحاياها الرجال، فلا تعيدُهم إلى بلدانِهم ونسائِهم، مهما طالتْ غربتهم وجارتْ عليهم نوائبُ الزَّمان.
وتقولُ الأمثولة إن كاليبسو، كانتْ قد احتفظتْ بأوديسيوس رهينة في جزيرتِها، لسبعِ سنواتٍ على التّوالي، حينما رقَّتْ لحالِه أثينا حامية البطل العائدِ إلى موطنِه، مكافأة له على صراعِه وتضحياتِه من أجلِ طروادة المجيدة. هكذا توسّلتْ أثينا إلى زيوس والآلهةِ الآخرين أن يبادروا إلى إنقاذِ أوديسيوس، من سلطةِ كاليبسو واستنزافِها مخزونَ قلبِه وجسمِه، ليرجعَ بسلامٍ إلى زوجتِه وديارِه؛ فلا معنى لوجودِه بعيداً من بلادِه؛ ما لم تكنْ أرضُه وأهلُه ملاذُهُ ومأواهُ الأخير.
لكنَّ القراراتِ المصيريّة في اليونانِ القديمة..؟ كانتْ تستلزمُ التوافقَ والإجماع، “كما حالُ وطنِ الأرزِ وسياسة الحكَّامِ في لبنان”. وهكذا تمَّتْ موافقة زيوس والآلهة الآخرين على القرار، وأوفدوا إلى جزيرةِ كاليبسو، هرمس مثلث العظمة بقبعتِه وصندِله المُجَنّح وعصاهُ المذهّبة.
آخنوخ المحنَّك عندَ المصريين القدماء، وإدريس من أوائلِ النبيين عندَ العربِ في الإسلام، هو نفسه هرمس حامي القوافلِ منذ الصّبا، والسارق الحرامي للأبقارِ والقطعان في اليونان. وهو إلى ذلك إله التجارة ورب الاحتيال. قدمَ إلى الجزيرة موفداً من الآلهة، يحملُ قراراً مُبرَماً بالإفراج عن أوديسيوس، لكي تعيدَ كاليبسو الحرية للبطلِ العائد، وتطلقَ سراحَه بلا مماطلةٍ أو تسويف.
هكذا يصلُ هرمس إلى الجزيرة وبحوزتِه أوامرَ الآلهة، يطالبُ بها كاليبسو إطلاقَ سراحِ أوديسيوس، تنفيذاً لقرارٍ اتّخذَته الآلهة بالإجماع. وتسخطُ كاليبسو على الموفدِ والتّعسّفِ في اتخاذِ القرار قائلة له: تَبّاً لكم من آلهة مستبدين، تنهشُ الغيرةُ قلوبَكم من نوازعِ إلهة مزهوةٍ بشبابِها تهوى المتعة – قبل الشرائع بآلآف السنوات – وتستبدُّ بها قدرة عظيمة، على ممارسةِ الحبّ علناً مع الرجال. ولما كان ملزِماً قرارُ آلهة اليونان؟ فقد رضختْ مكرهة لتنفيذِ القرار.
أسطورة لها مفعولُ السِّحر على الفكرِ والوجدان، شعرتُ وأنا أطالعُها ببهجةِ من يتعاطي الخمرةَ لأوّلِ مرَّة، فتسري مع الدمِ وتحملُ المتعة والخيال إلى القلبِ وسائرِ الأطراف..! أو كمخدرٍ له مفعولُ حشيشةِ الكيف..!؟ “الحشيشة المطروحة هذه الأوقات على التشريع في لبنان، لأغراضٍ طبيَّة بعيدة من تجارة المخدرات..! وربما بإجماعٍ على التصويت في وقتٍ قريبٍ بعونِ الله”.
بتأثيرٍ من الدَّرس حدثَ ذلك كلّه. ربما لأنني فهمتُ روحَ الحكاية؟ واستمتعتُ بهذه المشاهد المدوَّنة، تتجسّدُ في لوحةٍ ساحرةِ الأشكالِ والألوان، حينما ضَبَطَتْه الحورية متلبساً بالغربةِ والحنين، يتطلعُ ساهماً إلى الأفقِ البعيد، ويبدو الشوقُ لزوجتِه وموطنِه إيتاك في قلبِه وعينيه.
پينيلوب؛ المرأة التي ذاعَ صيتُها في جنباتِ الكون، فاشتهرتْ على مرِّ العصور بأعلى مراتبِ الوفاء؛ فلا يعادلُها في التاريخِ اللاحق، وفاءُ السموألِ في حفظِ الأمانات. أدْرَكَنا الله بهذه المرأة من الفردوس، ليعلمَنا كيف نقدِّسُ سرَّ الخلقِ فيها، وكيف ينبغي أن نرعاها ونصونَها؟ هكذا انتصرتْ كاليبسو على ذاتِها، وقرّرتِ الإفراج عن البطل، تنفيذاً لأوامرِ الآلهة في العودةِ للديار.
وتسرحُ كاليبسو بخيالِها إلى البعيد عبرَ البحارِ والمحيطات، تدندنُ بحسرةِ الهائمِ ترنيمةَ العشَّاق، وهي تتكىءُ باستسلامٍ على مدخلِ الغار، تتلاعبُ الرِّيحُ بردائِها الشفّاف، ويخيِّمُ الغيمُ فوقَ رأسِها في الفضاء، وأطراف شالها على كتفيها، يحاكي لونُه زرقة البحرِ وصفاء السّماء. هكذا أغوتْ حبيبها بالخلودِ الأبدي والشبابِ الدائم، فلا يهرمُ ولا يذوي مهما توالتْ عليه السنواتُ الطّوال.
ويشعرُ أوديسيوس بالمرارةِ وسرابِ الوعدِ والحرمان، وهي تمعنُ في خنقِه والتضييق عليه، وتزيدُ من همِّه وحنينِه وحمّى خواطرِه للإبحار، فيروحُ يسري عن نفسِه في البراري والحقول، بعيداً من سجنِه في الفراش، فيجوبُ أرضَ الجزيرة ضائعَ القلبِ، مضطربَ البالِ مكتومَ الأنفاس.
ثم يتوهُ من حيثُ لا يشعرُ ولا يدري، ويصلُ إلى مقعدٍ حجريّ في أعلى جرف، يشرفُ على أرضِ الجزيرةِ ومدى البحر، فيجلسُ يحدِّقُ بعينينِ حزينتين ويسرحُ بخيالِه في متاهةِ روحه من جديد. هكذا تعوَّدَ أن يفعلَ ويطلقَ ناظريه في الأفقِ البعيد، كلما دهمتْه الغربةُ واستبدَّ به الحنين.
وتُقْبِلُ إليه حوريةُ الجزيرة متلبساً بالجرمِ المشهود، وهو في أشدّ أحوالِ الحنين..؟ فترقُّ لحالِه وتناوله *”دلوار” وتشيرُ بيدِها إلى غابةٍ في الجوار كأنّها تقولُ له: سأتجاوزُ أنانيتي ورغباتي يا كلَّ عمري الجميل. هيّا جهِّزْ لنفسك طَوْفاً من خشبِ الغابة، وعدْ بالسَّلامة إلى دياركَ وذويك.
فتشتُ لاحقاً عن الكتابِ الذي يزهو بالحكايةِ السَّاحرة، لأستعيدَ معه متعةَ القراءةِ ونكهة الخيالِ العميق. لكنّه آلمني حقاً أن يضيعَ من عندي الكتاب، فلا أجده بعد جهدٍ وتنقيبٍ طويل، دون أن يراودَني الإحساسُ باليأس وأنا أفتشُ عنه بعنادٍ شديد. لم أتركْ دُرجاً في المكتبة ولا زاوية في المنزل، إلا وقلبتُها رأساً على عقب. تعبتْ أعصابي من الإصرارِ على استعادةِ الكتاب “اللعين”.
وإمعاناً مني في العناد..؟ رحتُ أفتِّشُ عنه في مختلفِ دورِ النّشر، والمكتبات التي تتعاطى تسويقَ أصنافِ الكتبِ المدرسيّة الجديدة أو المستعملة ومختلفِ الروايات، فلم أجدْ ما يحقِّقُ رغبتي في العثورِ على الكنزِ الضائع، أو الحصولِ ولو على نسخةٍ مستعملةٍ أو باليةٍ من الكتاب.
أسطورةُ أوديسيوس وكاليبسو، هي كل ما أتذكُره من الكتابِ الضّائع، وغلافه المدهش وسائر الصّور الملونة السّاحرة، التي تمثِّلُ أطفالاً يلعبون في حلقاتٍ وسطَ أشجارٍ مزهرة، وحقولٍ مليئة بالنّحلِ والفراشِ والغدران. كل ما يسبي العقولَ ويلهبُ خيالَ الصغارِ والكبارِ على السّواء.
وجدتُ كثيراً من الكتبِ الحافلةِ بمختلفِ أنواعِ الأساطير، من أسطورةِ أيزيس وأوزوريس في مصرَ الفراعنة، ومن اليابان أوراشيما الصياد، والسلحفاة ابنة ملكِ البحر. ومن اليونان القديمة وجدتُ ما لا يُحصى أو يتسعُ له خيالُ الكتّابِ والشعراء..؟ بدئا “بأندروماك” للكاتبِ الفرنسي راسين – المسرحية التي أطراها فرانسوا مورياك، الحائز على جائزة نوبل في الآداب، ممن نادوا باستقلال الجزائر. وما هذا الجنوح عن السياق إلاّ من بابِ الأمانةِ فحسب – وانتهاءً بالدكتور عماد حاتم، المعني إلى حدٍ بعيد في دراسةٍ رائعة، وتفسيرٍ عميق لتاريخِ الأساطير.
لكنني لم أجدْ في كلّ الكتبِ التي وقعتْ لاحقاً بين يديّ، ما يعادلُ ما قرأتُه في الكتابِ الضّائع. فلم أنسَ بعد أنّنا أول ما اشتريناه وقبلَ بدءِ الدّرسِ الأوّل؟ رحتُ أراقبُ ابنتي بحسدٍ كبيرٍ وحبٍّ أكبر، وهي تتأملُ الغلافَ بدهشةٍ أشعلَها خيالُ الأطفال. وتركتُها تفعل قدرَ ما تشاء، حتى إذا ما انتهتْ من متعةِ التّأمل في صورةِ الغلاف، وقبلَ مباشرةِ الدَّرسِ الأول؟ شعرتُ بمزيدٍ من الغيرةِ والحسد، حينما لم أسعدْ فأحظَ في طفولتي، بمثلِ هذا الكتاب الزاخرِ بأصنافِ الصّورِ وأحلى الحكايات.
كل ما عرفتُه في زمني التعيس عصا الأستاذ، وكتاباً فرنسياً واحداً بالأبيض والأسود. الكتابُ الفريد بأجزائِه الثلاثة (Le livre unique)، وفيه الحكاية اللئيمة عن الجندبِ والنملة.
هذه الأجزاءُ الثلاثة المقرَّرة، كانت تقتضيها المرحلة الأعدادية، التي تسبقُ مرحلة ما قبلَ الجامعة. “ولا زلتُ أذكرُغلافَه الدّاكن الأسمر الذي ينفِّرُ القلبَ محتواهُ الصارم، ومادّةُ ورقِه الصفراء تثيرُ حساسيةَ الحلقِ وتحملُ على السّعال، بفعلِ العث الذي يعشِّشُ بين دفتيّ الكتاب”.
ليبقى مدرِّس اللغة الفرنسية، أسوأ من الكتاب الفريد الذي عرفناه، وهو يضربُنا لتقصيرِنا في مادتِه، بدلاً من أن يشجعَنا ويساعدَنا في فهمِ الدروس. وعندي من الأدلةِ والبراهين ما يكفي ويفيض، بأن المدرِّس المبجل كان يجهلُ اللغة التي يتولى تدريسها، بعدما تجاوزتُ بعضَ مراحلِ التعليم، مما يحملُ على ابتسامةٍ عريضة مليئة بالشماتة والسخرية، تنالُ من المُدَرّس ومن هيبةِ التعليم، وهو يبتكرُ تفسيراتٍ من مخيّلته، ويحاولُ أن يقنعَنا بقسوتِه المقيته وجهلِه المبين.
لم تكن ابنتي سعيدة بكتابها فحسب..؟ بل كانت سعيدة مع زملائِها وزميلاتِها ومُدَرِّسيها أيضاً، والصور السّاحرة الملوَّنة المعلقة في الصفوف. وحينما كانتْ تسمعُ بوقَ حافلةِ المدرسة يناديها عندَ الصّباح..؟ كانت تختزلُ الدرجتين بقفزةٍ واحدة، وطلاقة مليئة بالفرح في النزولِ من البيت.
بينما كنتُ أنافقُ لأهلي في طفولتي، عن اهتمامي وشدّة محبّتي لمدرستي والنشيدِ الوطنيّ، ولا زلتُ أنافقُ حتى اللحظة أن لبنان بلدٌ عظيمٌ بحكّامِه! وإمعاناً منّي في النفاقِ والخسّةِ والتّدليس؟ رحتُ أستخدمُ في مؤخراتِهم “وسطى الأباخس”، بتعبيرِ أخينا عبد الجليل لعميري من المغرب.
أما أقصى ما باتَ يمارسُه معلمو ومعلمات اليوم من العقوبةِ بحقِّ الطالبِ “المسيء”؟ فلا يتعدى عتباً يقرأه الطالبُ في عيونِ المدرِّسين، أو موقفاً يتَّسمُ ببعضِ الجفاءِ كحدٍ أقصى، وعقوبةٍ تحترمُ أساليبَ التربية، والمناهج المقررة وسلامة التعليم الحديث.
لكنّ مدرّسَ اللغة الفرنسية، الذي تعلمتُ على يديه يا طيَّب الله مثواه؟ فكان تمادياً في عقابنا وتزكية من أهالينا، يستخدمُ عصاً يختارُها من شجرِ الرّمان، عصاً كثيرة العقدِ يلهبُ بها أصابعَ أيدينا، فتفقدُ الإحساسَ بأطرافِها إبانَ الشتاء. ولهذا لا أكتمكِ يا صديقتي أنني حتى اللحظة، لا زلتُ أشعرُ بندامتي كيف ضاعَ مني الكتاب، وضاعتْ معه رحلة أوديسيوس وقصة حبّه لكاليبسو سيدة الجزيرة وحورية البحر. ولا زالتِ اللهفة تراودُني والأملُ يحدوني في العثورِ على الكتاب.
تعلمتُ من الأمثولة معنى مفردةٍ فرنسية كنتُ أجهلُ علامَ تدل..؟ وكانتْ كما بدا لي من سياق الدرس تتصلُ بالعيونِ الجميلة، اجتهدتُ في تفسيرها وأخفقتُ في معرفةِ ما تعنيه على وجهِ التحديد، حينما رحتُ أستجلي معنى المفردة العصيَّة، في “المنهل” قاموس الدكتور سهيل إدريس صاحب “الحي اللاتيني”، ومراجعة الدكتور صبحي الصالح ممن قتلتهم حربُنا الأهلية.
تعلّمتُ يومَها من خلال “المنهل” معنى Pers””: مزرورقتان أو مخضوضرتان، كلمة فرنسية جديدة على قاموسي في تفسيرِ المفردات. وتشيرُ إلى خليطٍ مدهشٍ ومتجانس من الأزرقِ الصافي والأخضرِ الشَّاحب، يفيضُ بنقاءِ البنفسج جنباً إلى جنب. ويقولُ المنهل في تفسيرِه للمفردة: La déesse aux yeux pers هو اللون الذي تتصفُ به عينا أثينا. وأنّ الإس “s” على الطرف حرفٌ أخرس، وبعضُ المراجع الأخرى تفيدُ أن المفردة تعني ظلالَ ألوانٍ يخيِّمُ عليها الأزرق والأخضر والأرجواني؛ وتتمُ الإشارة إلى هذا اللون للتعبيرِ عن عمقِ وسحرِ العيون.
أما “شربات جولا”: الأفغانية البشتونيَّة حفيدة أثينا، ومن بذورِها عبرَ تاريخٍ طويل، فقد سَرَتْ في مفاصلي رعشة مُخَدِّرة وأنا أرى عينيها، ليقعَ اختياري على صورتِها بين فيضٍ من الصورِ السّاحرة أزيِّنُ بها النصّ. هذه المخلوقة عصيَّة على الوصفِ المنصف، ففي عمقِ عينيها يستوطنُ وميضٌ من التَّحدي والشَّهَب، وألوان يدركُها القلب ويخونُ وصفَها اللسان، وتوحي بما كانت عليه جدّتُها أثينا، إلهة الحرب والحكمة والقوة وكلِّ نبيلٍ من الأوصاف. والسؤالُ الذي يلحُّ على خاطري، كيف يتعاطى خيالُ الأطبّاءِ الرجال، مع مرضى العيونِ الفاتنة من النِّساء.!؟
ومن أسراري يا صديقتي؟ أنني ضعيفٌ أمامَ المرأة ومولعٌ بالعيونِ الفاتنة. تلك التي تشبه أثينا وقد شغلَتني عن نفسي زمناً طويلاً..؟ وشَغَلَتْها عني تربية الأولاد..! فهل أدركتِ يا صديقتي كيف يكون التفاوت بين الطبيعتين..؟ تلك هي عطايا الرب للمرأة دون سواها من سائرِ الخلق.
لكن الزَّمن يا صديقتي نالَ منّي ومن زوجتي. كبرَ ألأولادُ وتزوَّجَ معظمُهم وتراجعتْ عواطفُنا، لتنوبَ عنها العشرةُ الطيِّبة والهَمّ المشترك بأحفادِنا، دون أن يخفتَ إعجابي بالعيون الجميلة، ودون أن تتنازلَ زوجتي عن آنيةٍ بلونِ العيونِ التي أحبَبْتُها، بل تمادتْ في الحفاظِ عليها.
هي مجموعة مميزة وغالية الثمن، من أواني القيشاني الفيروزي الأزرق، تدهشُ القلبَ وتبهجُ العين. شَحَنَتْها من الخارج ودفعتْ ثمنها نقداً أجنبياً غالياً. احتفظتْ بها عقوداً طويلة تتوهجُ أنيقة في خزانةٍ زجاجيّةٍ مُضاءة، تزيّنُ بها قاعةَ الجلوس في إحدى الزوايا المقابلةِ للمدخل.
هذه المجموعة العريقة الرائعة، التي تباهتْ بها طويلا..؟ رافقتْها مذ تزوّجنا فلم تعطِ منها شيئاً لأبنائِها أو بناتِها، ممن تزوجوا وغادرونا إلى بيوتِهم تباعا. وكانت شديدة الحرصِ في التّعاملِ مع الآنية، فلم تكسرْ منها قطعةً واحدة خلالَ عقودٍ طويلة من الزّمن. ولم تفتحِ الخزانة مرةً إلاّ لكي تزيلَ عنها الغبار، وهكذا لم تستفدْ منها ولم تستعملْها على الإطلاق.
لكن العدوان الإسرائيلي على البلاد العام 2006، لم ينلْ من العيونِ الملوّنة الجميلة والحمدُ لله. بل دمَّرَ إسمنتَ المباني وحَطّم الآنيةَ المدهشة، حطَّمها كلها دون أن ننتفعَ بها أو نستخدمَها مرةً واحدة. هكذا لم أجدْ غضاضة أن أشمتَ بزوجتي التي أحبّها، دون أن أشعرَ بالأسف على آنيةٍ لم نستعملها؛ هي كل ما حطّمه العدوان من تصميمنا، ومقاومتنا في التصدي وصلابة إرادتنا.
حاشية:
*”دلوار”: مفردة فرنسية “Doloire” آلة لقطع أو حك الخشب لعلها: “القدُوم أو القادوم” مما يشبه أدوات النجارة..؟