المدرسة العرضية في فقه الشريعة
سبتمبر 25, 2021
عدد المشاهدات 780
عدد التعليقات 0
المدرسة العرضية في فقه الشريعة
أنور غني الموسوي
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد واله الطاهرين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
هذا بيان للمدرسة العرضية، والعنوان هو (المدرسة العرضية؛ منهج العرض العلمي التصديقي في فقه الشريعة). والمدرسة هنا هو المذهب المتبع في التعامل مع موضوع بحثي معين او هو عموم المنهج في التعامل مع المعارف في علم معين او في موضوع معين، والموضوع هنا هو فقه الشريعة. فالقصد هنا مقابلة غيرها من المدارس الفقهية، وتمييز ذلك المذهب والمنهج والاعلان عنه، فهذا الكتاب بمثابة اعلان عن المدرسة العرضة وبيان ملامحها في قبال المدارس الفقهية الاخرى.
واقصد بالملامح، الملامح المنهجية وكل ما يتعلق بالنظرية والتطبيق المستفاد من القران والسنة. كما انه يشمل الخصائص.
والمنهج هنا هو الطريقة والمذهب العلمي البحثي بالتعامل مع المعطيات والأدلة الشرعية. وفي القران ورد لفظ المنهاج في القران والسنة.
والعرض هنا يعني عرض المعارف بعضها على بعض أي عرض المعرفة الجديدة على المعرفة السابقة أي عرض ما هو غير ثابت على ما هو ثابت لبيان مدى توافقه وتناسقه معه وهو اجراء فطري في الادراك البشري الا انه غير محسوس لرسوخه ووجدانيته العميقة. ومثله بالضبط يحصل في باقي المعارف والادراكات. والعارضية بلحاظ الفاعل للعرض هي مذهب العارضي والعارضيين الذين يعرضون الحديث على المعارف الثابتة من القران والسنة كما سياتي تفصيله، ومن يعتمد المنهج العرضي يسمى عارضيا. والبحث هنا من بيان المثال لمعرفة اعم تشمل عرض كل معرفة مدركة على القران والسنة لأجل الحكم بصدقها وبطلانها او انها حق وباطل. فيكون القران محور وركن معارفنا والذي وفقه يتبين الصدق من الكذب والحق من الباطل.
والعلمية هنا ما يقابل الظن، فالعرض على القران يعني قصد التناسق والتوافق والاتساق، ولا ريب ان الاتساق من علامات العلم والحقيقة، وواقعنا ما كان واقعا الا لإنه متسق واي خرق لهذا الا تساق يسمى ظاهرة غير طبيعية. فعرض المعارف على القران يخرجها من الظن الى العلم، والمعارف التي هي ظن الواحد، يجب عرضها على القران، فان كان له شاهد أصبح علما وصح اعتماده والا كان ظنا لا يصح اعتماده. وأيضا المفهوم يتوسع الى كل شيء في الحياة فما شهد له القران فهو العلم والحقيقة وان سمي في العرف غيبا او ايمانا، وما لا يشهد له القران فهو ظن وان سمي في العرف علما ويقينا. وبهذا يعلم دخول موافقة القران في تعريف العلم والحقيقة واليقين بل والايمان، فلا علم ولا حق ولا صدق ولا ايمان ولا يقين الا بموافقة القران بل لا واقع الا بموافقة القران. والعرض ليس امرا مختصا بالشريعة بل ان أساس الادراك في هذه الحياة هو عرض المعارف بعضها على بعض، فلا استقرار الا لما وافق ما سبق وكل ما يخالف ما سبق يبقى وغير مستقر حتى تتوالى المعطيات مؤكدة له فيأخذ بالاستقرار شيئا فشيئا. فمنهج العرض أداة للإنسان لمعرفة الصدق والحقيقة. وورد في القران نظيره بألفاظ الرد وفي السنة ورد صريحا لفظ العرض.
والعلمي هنا ما يقابل الظني، فيشمل القطع والتصديق. فالمعرفة اما ظن او علم والعلم اما قطع او غير قطع، والأخير يحصل بالاطمئنان المميز ويتحقق بان تكون للمعرفة شواهد مما هو ثابت ومعلوم. ولا بد من التأكيد وهو ما سأبينه مفصلا انه لا تعارض بين العلم ( الوضعي) والدين، بل العلم جزء من الدين وكل ما يقره العلم يقره الدين وكل مخالفة بين العلم والنص الشرعي فأما ان يحكم بظاهرية النص الشرعي او يأول، ولا يقال ان العلم الوضعي مرحلي تغيري، فان النص الشرع ظاهري واسع يسع هذا التغير وما دام النص كلاما ووحدة لغوية غير مباشر فهو يحمل على الادراك المباشر العلمي، وان بان التغير يحمل على التغير الجديد بلا اشكال، هذا من خصائص الحقيقة الصدق الطبيعي في الادراك البشري العادي وهو كاشف عن عدم تمام قصد المثالية وان القصور مترسخ في المعرفة البشرية وهو من علامات التوحيد والعلم ان الكمال لله تعالى.
والتصديقي أي ان المعارف يصدق بعضها بعضا، بان يكون للجديد أصل في المعارف المعلومة الثابتة من القران والسنة يصدقها ويشهد لها، وستعرف ان الأصل اما مصدق او شاهد للفرع الذي يصدقه. والتصديق او (المصدقية) هي محور منهج العرض وعليه مداره، ولذلك سيكون تفصيل فيها. والتصديق ورد نصا في القران وورد لفظ (مصدق) وورد مثله في السنة.
والفقه الفهم وهو في المعارف بشكل عام العلم، والعلاقة بين العلم والمعرفة ان العلم طريق للمعرفة وصفة لها، بينما المعرفة هي الادراك وهي الموضوع وهي النهاية وأحيانا يستعملان أي العلم والمعرفة بمعنى واحد وهذا غير تام. فالعلم طريق والمعرفة موضوع الطريق وغايته. ولذلك فالفقه هو العلم بالشريعة واصله من هذه الجهة التفقه، وهناك استعمال خاص في السنة للفقه والعلم بمعنى العمل والتمسك، فالفقيه ليس من يعلم الشريعة فقط بل من يعمل بها فيلحظ الجانب العملي فيها، ولذلك الفقهاء يتفاوتون ليس بالجانب العلمي بل بالجانب العملي ولأجل ان هذا المعنى وهو واقعي بعيد ان الاستعمال المعروف في الأبحاث فإننا نستعمل المعنى السائد، والا فان هذا الفهم للفقه جوهري وحقيقي لان المقصد كله والغاية هو تقوى الله والعمل بأمره وليس مجرد تعلم تعاليمه.
والشريعة هنا المعرفة الدينية الإسلامية، ولا ريب في وجود تداخل لغوي عرفي وفي الوعي بين الدين والشريعة الا ان كل منهما وجهان لمعرفة واحدة فحينما ينظر اليها من جهة المعتقد فهي دين وحينما ينظر اليها كمعرفة فهي شريعة، فالدين في أصله ما يدين به الانسان والشريعة في اصلها الطريقة، وكلاهما صفة لمعرفة واحدة الا انهما يختلفان من جهة الملاحظة والنظرة لتلك المعرفة. ولأننا نتعامل معها أساسا هنا من الجهة والنظرة الثانية أي باعتبار المعارف الدينية شريعة وطريقة وكيف نتوصل اليها كان لفظ الشريعة انسب. فالمقصود هنا كل ما يتعلق بدين الانسان، بل ان هذا البحث هو من المثال لعام العرض والتصديق في المعارف، فالبحث ينطوي على نظرية معرفة بالمصطلح الفلسفي، وهو يقدم فلسفة إسلامية شرعية بخصوص نظرية المعرفة ولو من خلال بيان المثال والمصداق. لان المعرفة الشرعية هي جزء من المعرفة البشرية وليست شيء في قبالها، وهنا يبرز مفهوم الغيب، فالغيب ليس مجرد اخبار عن امر غائب من دون مناسبة معرفية بل ان الغيب متصل بالحاضر اتصالا معرفيا طبيعيا، فالانتقال من الحاضر والشهود الى الغيب هو انتقال تطوري وليس طفرة حدوثية والنص يحمل على ما قلت لأنه الراسخ في وجداننا، والايمان ليس امرا تسليميا بل هو امر موضوعي منطقي دوما. ومن هنا يمكن فهم الغيب بانه معارف مستقبلية بالمعنى الفلسفي وانه علوم متطورة من جهة القدرة والامكانية، وبعضها يحتاج الى لطف الهي ليحصل الادراك به وهذا ما يحصل في الانتقال من الدنيا الى الاخر، فالانتقال من الدنيا الى الاخر هو انتقال ادراكي تطوري وليس خلق نوع مختلف من الادراك، كما ان جميع الخصائص في الواقع الغيبي ومنه الاخروي يمكن تفسيرها فيزيائيا الا انها فيزياء عالية أي فيزياء مستقبلية يعجز العقل الان عن ادراكها ويحتاج الى لطف الهي ليتمكن من ذلك. وعلى كل حال فالواقعية والطبيعية والتناسقية والاتساقية والعلمية والفيزيائية أمور مترسخة في الادراك البشري وليس هناك ما يدل قطعا على نسخها او مسخها او رفعها من الادراك البشري ولو في الاخرة بل الدلائل على خلافه وليس هنا موضع تفصيل هذا الكلام.
وفي الشريعة المدرسة العرضية تعنى بعرض المعارف الشرعية على ما هو ثابت ومعلوم منها، فلا يقبل الا ما كان له شاهد ومصدق مما هو ثابت ومعلوم. وبعبارة أكثر تحديدا هو عرض المعارف النقلية والقولية على المعارف الثابتة المعلومة من محكم القران الكريم وقطعي السنة. والاصل لها أصل قراني هو التصديق (المصدقية) ونفي الاختلاف واصل سني هو عرض الحديث على القران.
ولقد تحولت في سنة 1342 هجرية أي قبل عشر سنوات كليا الى منهج العرض بعد ان كنت سنديا، وفي الواقع كانت لي تعليقات على مسائل عقائدية وشرعية (فقهية) وفي أصول الفقه ومقدماته قبل تلك الفترة وكتب وفق المنهج السندي، وبعد ان تبنيّت منهج العرض راجعت الكثير من تلك المسائل، ومع انني ابقيت تلك الكتب السندية الا ان عملي الان على المدرسة العرضية.
ان الغرض من منهج العرض العلمي التصديقي في فقه الشريعة هو الوصول الى معارف صادقة حقة متسقة متناسقة في الشريعة، وإنك تجد ملامح هذه المدرسة العلمية (اللاظنية) عند مجموعة من الفقهاء لكن بنسب متفاوتة من حيث النظرية والتطبيق الا ان أكثر الفقهاء تنظيرا وتطبيقا للمنهج العلمي غير القابل للطن في الشريعة هما السيد المرتضى والشيح ابن ادريس رضي الله عنهما بعدم اعتمادهما اخبار الاحاد، وفي عمق المنهج وجوهره يمكن القول ان المدرسة العرضية تقترب من منهجهما. ومع ان المدرسة التسليمية الإخبارية توجب العلم في الشريعة ولا تقبل الظن الا انها تقبل اخبار الاحاد وهذا غير تام، فلدينا المدرسة الظنية وهي السندية (الأصولية) والتسليمية (الإخبارية) والمدرسة العلمية (العرضية). وستعرف ان المدرسة العلمية العرضية هي الاقدر على تحصيل معارف شرعية متناسقة متوافقة متسقة غير مختلفة ولا متباعدة وهذه كلها علامات الحقيقة والصدق وفق البيانات الشرعية الإسلامية وأيضا وفق تعاريف الفلسفة الحديثة. وإذ انا ابين هذا المنهج ومعالمه فإنما ارجو ابعاد الظن والاختلاف والتباعد وعدم الاتساق من المعارف الشرعية، والله المسدد.