بين “وثيقة الاستقلال” و”قانون الجرائم الإلكترونية”
أغسطس 17, 2017
عدد المشاهدات 1331
عدد التعليقات 0
غسان زقطان
كابوس المطاردة الذي خبرناه، أنا وغيري، خلال سنوات المنفى والاحتلال الطويلة يتجمع الآن وبقوة وبأفكار وأدوات فلسطينية أكتب بحذر، أعيد الكتابة وأبالغ في البحث عن صيغ دوارة، أحاول استعادة مهارات التخفي التي وضعتها في القبو كـ”ذاكرة”، لا أنجح دائماً، ولكن فكرة أن السلطة الفلسطينية التي أعيش أنا وإياها تحت الاحتلال الاسرائيلي، قد أقرت قانوناً جديداً اسمه “قانون الجرائم الالكترونية”، وأن مواد القانون تطارد كتابتي بعينين متنمرتين في مناطق نفوذها (أ)، حيث يمكن انتظار حافلات الفورد الصفراء التي تصل من مناطق (ب) و(ج) والتدقيق في بطاقات الركاب، أو إرسال دورية بسيارة مدنية مكشوفة لترابط في حي جانبي، وتدبيج تقارير حول الأضواء في نوافذ شقة في بناية جديدة، أو، وهذا أصبح متداولاً في الفترة الأخيرة، توقيف مسافر/ة في استراحة أريحا قبل صعوده/ا الحافلة “لأسباب أمنية غامضة”… الى آخر هذه الوسائل المكررة والمنقولة بأمانة عن تجارب مجاورة اتضح فشلها، الأمر يشبه الحصول على تبرعات مستخدمة وأثاث مستخدم وأفكار مستخدمة.
كابوس المطاردة الذي خبرناه، أنا وغيري، خلال سنوات المنفى والاحتلال الطويلة يتجمع الآن وبقوة وبأفكار وأدوات فلسطينية.
ورغم استعادة مهارات التخفي والحذر وتدوير اللغة، لا أستطيع إلا أن أقول بوضوح أنه لم يخلص النية، أو أنه لم يكن مؤهلاً، من أشار على الرئيس محمود عباس التوقيع على قانون “الجرائم الالكترونية” بصيغته المعلنة المثيرة للجدل. والذي اعتماداً على لوائحه ومواده تجري عمليات اعتقال واستدعاءات متعددة شملت صحفيين وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولا أظن أن مراجعات قانونية عميقة وشاملة، كما هو متبع في مثل هذه الحالات، قد سبقت دفع القانون المذكور بصيغته المعلنة ونشره في الجريدة الرسمية، وتحويله إلى مرجع للأجهزة الأمنية المختلفة، والتي تتداخل صلاحياتها وأدوارها وتتقاطع مهماتها.
اتكأت الأجهزة الأمنية الفلسطينية بكامل ثقلها على توقيع الرئيس، كما لو أنها كانت على دراية مسبقة بمواد القانون الذي يمنحها صلاحيات واسعة وغير مسبوقة، بحيث بدا “القانون” المذكور وكأن غايته هي منح هذه الأجهزة مظلة حماية وليس تعزيز حرية التعبير وحماية حقوق المواطن وخصوصيته.
كان يمكن الاستفادة من تجارب وخبرات عالمية في هذا الشأن، وقبل كل شيء كان بديهياً استشارة المؤسسات المتخصصة والمعنية في مناطق السلطة الفلسطينية، وهي مؤسسات، في أغلبها، مجربة وتملك خبرات وتجربة طويلة في مواجهة قوانين الاحتلال وسياساته، حيث تأسس بعضها قبل وصول السلطة وقبل اتفاقيات أوسلو بوقت طويل.
الغريب أن الجهات المقررة قفزت عن هذه الخبرات واكتفت بنفسها، وهو أمر تسبّب بأضرار كثيرة، وعمّق الفجوة العميقة بين مؤسسة السلطة ومؤسسات المجتمع المدني.
القانون مليء بالثغرات والتعسف، كما تشير مؤسسات حقوقية متخصصة، يمكن العودة لقراءات مثل قراءة “مؤسسة الحق” على سبيل المثال، والرسائل التي وجهتها المؤسسة للمقرر الخاص في الأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، “ديفيد كاي”، بشأن قرار قانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني، حيث “أوضحت رسائل “الحق” مدى خطورة القرار على حرية الرأي والتعبير والحق في الخصوصية والحق في الوصول للمعلومات المكفولة في الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها فلسطين ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”.
القانون، كما بات واضحا، يشكل تراجعاً كبيراً عن التزامات السلطة الفلسطينية المنبثقة عن منظمة التحرير، بمعايير توفير وحماية حق التعبيروحريته للفلسطينيين، ويتعارض مع التزامات السلطة بالمعاهدات الدولية التي وقعت عليها بصفتها جزء من المجتمع الدولي.
والأهم هو تناقض هذا القانون مع روح ونص وثيقة الاستقلال نفسها، الوثيقة التي ضمنت حقوق الفلسطينيين ومساواتهم وفي مقدمتها، دون شك، الحق في حرية التعبير.
ثمة أكثر من قراءة مفقودة هنا قبل وبعد مثل:
قراءة الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون: والسلطة الوطنية التي تسن القوانين، أتحدث حول الاحتلال وسياساته العنصرية والتي تشمل، فيما تشمل، الناس والسلطة نفسها.
وقراءة واقع السلطة نفسها وامكانياتها وآليات سن القوانين وإقرارها وتطبيقها، في ظل انقسام وتفكك وتعدد مواقع اتخاذ القرار، وتعطيل كلّي للمجلس التشريعي وغياب أي دور لـ”نواب الشعب” المنتخبين، والاعتماد على قوانين لا تتمتع بشرعية واضحة وذات طابع مؤقت، قوانين تكاد تكون في جوهرها منظومة من أفكار تصدر عن نزعة فصائلية.
قراءة واقع المنطقة والإقليم.
قراءة التوقيت: الذي ترافق مع “انتفاضة القدس” والمكتسبات التي حققها أهل العاصمة وقواها المجتمعية والسياسية، وهي مكتسبات كان للسلطة نصيب منها، عبر الموقف الواضح الذي اعلنه الرئيس نفسه والذي شمل وقف “التنسيق الأمني”، ولو الى حين، اذ كانت تلك إشارة لا لبس فيها الى أن ما كان خطاً أحمر، أو مقدساً، لم يعد كذلك.
تحت هذه المظلات وعبر الثغرات الكثيرة التي تكتنف “شبكة الحقوق” الفلسطينية، تسلل “قانون الجرائم الالكترونية”، ساحباً خلفه لوائح ومواداً واقتراحات وتأويلات مفتوحة ورغبة غير مبررة أو مفهومة بالتسلط.
والمؤلم حقاً أن إقرار مثل هذا القانون، وهذا يشمل الطريقة والآليات والمتن، وضع السلطة التي من المفترض أنها تمثل شعباً تحت الاحتلال وتواجه سياسات الاحتلال وقوانينه العنصرية، أمام مساءلة دولية حول قوانينها هي تجاه شعبها.24