الفن في شراك التمثيل والتشويه
مايو 31, 2018
عدد المشاهدات 6742
عدد التعليقات 0
لمياء باعشن
كل رؤية فنية لا بد أن تقف على قدمين راسختين في الواقع، لكنه لا يشكل لها سوى نقطة انطلاق إلى آفاق أعلى وأجمل، حتى وإن عكست قبحاً. في التحليق بأجنحة الخيال ابتعادٌ عن الرصد المكبل بنسخ الواقع كما هو، وإن ظل الخيال يبني هياكله من مكوناته. إن ظن الفنان أن واجبه هو النقل الدقيق لما يرى بمصداقية شديدة، أو إن أصر المتلقي على أن يحكم على العمل الفني بعرضه بشكل صارم على معيار الواقع، فذلك نزع لصفة الفنية من الفنان ومن عمله.
حين يحاصر المتلقي العمل الفني بما هو خارجه فإنه يخنق إمكانياته، وحين يحشر نفسه داخل العمل متهماً إياه بتشويه صورته، ثم يتنصل منه بمقولة «هذا العمل لا يمثلني»، فهو يتعامل معه بسطحية قاتلة. تتبدى مظاهر الحصار في أمثلة كثيرة تتكرر لدينا في كل رمضان في الاعتراضات والرفض والمطالبات بالتوقيف للمسلسلات الدرامية المحلية، وهذه المظاهر هي نفسها تلك التي تحاصر الروايات التي تحظى بمقروئية عالية، مثل روايات غازي القصيبي، وتركي الحمد، وعبده خال، لمجرد أنها تعكس صورة المجتمع بطريقة كاشفة وصاعقة.
وكلنا نذكر الصدى الكبير الذي قوبلت به رواية بنات الرياض لرجاء الصانع، فرغم الإقبال الشديد على قراءتها، إلا أن المعارضة والهجوم شكلا رفضاً لتصويرها المجتمع السعودي كما لا يرضاه المتشددون.
إن التعبير الذي يجري على ألسنة المعارضين: (هذا لا يمثلنا)، ينقل معنى التمثيل الفني للواقع من مستوى الرمزية إلى مستوى المسؤولية، فالكاتب ينتقي من محيطه شرائح يصبها في قوالب مبتكرة تمثل فكرته، والفنان يتقمص شخوص النصوص ويمثل أدوارها، لكن المتلقي المحلي يرى أن العمل يحمل صورته هو، وينقل هويته وتراثه كفرد وكمجتمع ليكون ممثلاً عنهم وسفيراً لهم.
ردة الفعل هذه قد لا تُستغرب من مجتمعنا، فنحن حديثو عهد بالدراما وفنون التمثيل، ولكن الغريب هو ما يدور في المجتمع المصري كل رمضان من حملات غاضبة ضد المسلسلات، فهناك ربط مباشر بين مسلسل «عوالم خفية» وبين حادثة انتحار الفنانة سعاد حسني، رغم أن الأحداث بعيدة عنها، لكن لمجرد أن بطلة المسلسل المقتولة رمياً من الشرفة، كانت فنانة تكتب مذكرات، فهي حتماً تمثل سعاد حسني ولذلك تقوم أختها بإجراءات قانونية ضد المسلسل.
أما مسلسل «كلبش 2»، فقد أثار غضب أهالي محافظة الفيوم المصرية بسبب الإشارة إلى ارتباط الفيوم بالإرهاب، وفي ذلك إساءة وتشويه للمنطقة. ومن قبل، تم الاعتراض على مسلسلات لتشويهها صورة الأطباء في شخصية طبيب فاسد، أو المحامين، أو المدرسين، فكل مهنة لها حراسها الذي يرفضون تمثيلهم في الدراما بشكل مهين.
ماذا حدث لهذا المجتمع المصري المنغرس في الفن التمثيلي، والذي شاهد الآلاف من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، وعرف منذ زمن كيف يضع الحد الفاصل بين الواقع والخيال، وكيف يستمتع بموضوعية بالطرح الدرامي، وكيف يتعاطف مع وضع إنساني قابل للحدوث، ولا يربطه بوثاق التطابق معه ومع مجتمعه؟ حين ينزعج المشاهد السعودي المحافظ من أن تظهر امرأة بعباءة لتلقي بطفل لقيط عند باب المسجد، فذلك لأن هذه هي المرة الأولى. أما الجمهور المصري الذي لم ينتفض في عام 1962 وهو يرى مديحة يسري تلقي بالطفل أمام باب المسجد في فيلم «الخطايا»، فما الذي زرع في نفسه هذه الحساسية وقمع خياله وجعل حكمه على العمل الفني مرهونا بتمثيله للواقع؟
إن كان العمل الفني (لا يمثلنا)، فذلك هو المطلوب تماماً، فالفن ليس نسخة أمينة للواقع، ولكنها تَصورٌ لما يمكن أن يكون عليه الواقع، تركيبة احتمالية لا يحكمها سوى منطقها الداخلي، ولا يجب أن تقيدها شراك التمثيل والتشويه.المدينة