أميركا وجماعة الحوثي… خيارات المواجهة
يدخل اليمن، وأيضاً الإقليم، مرحلة جديدة من التصعيد، إذ إن استهداف الولايات المتحدة مواقع عسكرية التابعة لجماعة الحوثي في اليمن، وإن تحت غطاء التحالف الدولي “حماية الازدهار” لتأمين الملاحة في البحر الأحمر، فإنه يشكّل تحولاً في إدارة الصراع، وأيضاً في خيارات المواجهة، ففي حين تعوّل واشنطن على أن تؤدّي عملياتها العسكرية في اليمن إلى تحجيم قوة الجماعة وتعطيل قدرتها العسكرية، ومن ثم تحقيق مستوى من الردع، فإن الجماعة يبدو أنها تواجه خياراتٍ صعبة من طرق الرد، وإدارة علاقاتٍ مع حلفائها تتعدّى المناصرة.
جاء التحرّك العسكري الأميركي ضد جماعة الحوثي في يوم 12 من يناير/ كانون الثاني الحالي، استجابةً، وإنْ متأخّرة، لتحدّيات داخلية وخارجية تواجهها الإدارة الأميركية، أهمها محاولة استعادة استراتيجية الرّدع الأميركي التي تشكّل أولوية جوهرية بالنسبة لها للحفاظ على مركزها المتداعي بوصفها قوة عظمى، إذ إن استمرار هجمات جماعة الحوثي على السفن في البحر الأحمر، والتي قدّرت بأكثر من 27 هجمة منذ انطلاق عملياتها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قوّض، إلى حد كبير، من الفاعلية الأميركية في ردع قوى محلية، ما ضاعف من مخاوف حلفاء أميركا. كما أن تحوّل أزمة الملاحة في البحر الأحمر إلى ورقة فاعلة للضغط من الجماعة وحليفها الإيراني أخلّ بموازين القوة في المنطقة، لصالح دول الممانعة وقواها، ومن ثم أضرّ بمصالح أميركا وحلفائها، إلى جانب زجّ معادلة البحر الأحمر في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في الوقت الحالي، ما يعني رهن تأمينها بتحسين الشروط الإنسانية لأهالي غزّة، وفق مطالب جماعة الحوثي، ما يعني إملاء اشتراطات سياسية على الإدارة الأميركية.
من جهة أخرى، وضع استمرار استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر الإدارة الأميركية في حالة انكشاف سياسي، جرّاء عجزها عن تأمين الملاحة، ومن ثم الإضرار بمركزها الدولي بوصفها قوة عالمية، يُفترض أن يكون تأمين الملاحة من أهم واجباتها السيادية، بالإضافة إلى أهمية حرية الملاحة قضيةً أمنيةً ووطنيةً محوريةً بالنسبة للسياسة الأميركية الخارجية، فضلاً عن أن استمرار أزمة الملاحة في البحر الأحمر وتعطيله جزئياً جرّاء تغيير شركات الشحن مساراتها لتجنّب هجمات الجماعة، ضاعف من تهديدات الجماعة على الاقتصاد العالمي، من ارتفاع تكلفة الشحن عالمياً إلى الإضرار بسلاسل التوريد، وعسكرتها، إلى جانب تأثيراتها الاقتصادية غير المباشرة، وذلك بتذبذب أسعار النفط وتقييد تدفقاتها، ومن ثم بدا أن محاولة ضبط المعادلة الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط بالنسبة للإدارة الأميركية، أو على الأقل السيطرة على جبهة واحدة، تبدأ من تقليص القدرة العسكرية لجماعة الحوثي، أياً كانت النتائج.
في الحسابات الأميركية، تأديب قوة محلّية خارج عن السيطرة أجدى من وقف حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة، إذ إن معركة تأمين الملاحة في البحر الأحمر محورية بالنسبة للإدارة الأميركية، فالدور الحيوي الذي لعبته جماعة الحوثي فرضها قوّة مهدّدة للمصالح الأميركية الحيوية في المنطقة، لكونها قوة خارجة عن السيطرة، حيث حرصت الإدارة الأميركية بموازاة مركزة قواتها العسكرية في البحر الأحمر، وتكثيف مرافقتها للسفن التجارية لتوفير جانبٍ من الحماية، على تأكيد سيطرتها على المعادلة الأمنية في البحر الأحمر، إلى جانب القيام بخطواتٍ استباقية ضد الجماعة، وذلك بإسقاط عشرات الصواريخ والطائرات المسيّرة التي أطلقتها على البحر الأحمر، بما في ذلك إغراق ثلاثة زوارق تابعة لها في مطلع شهر يناير/ كانون الثاني الحالي، أسفر عن مقتل عشرة من مقاتليها، فإن استمرار هجمات الجماعة في البحر الأحمر فرض على الإدارة الأميركية شن هجماتٍ عسكريةٍ مباشرة، خصوصاً بعد فشل القنوات الدبلوماسية الأميركية بدفع إيران إلى الضغط على وكيلها لوقف هجماتها في البحر الأحمر.
وقد استهدف الطيران الأميركي مواقع عسكرية للجماعة في صنعاء وصعدة والحديدة وحجّة وتعز، شملت أهدافاً متعدّدة لضرب المواقع التي تنطلق منها هجماتها، إلى جانب تسييج عملياتها العسكرية في اليمن، بشرعية دولية إلى حدٍّ ما، أي بمظلّة سياسية، تضفي على عملياتها، الآن ومستقبلاً، أيضاً شرعية دائمة، من خلال إعلانها أن عملياتها تنخرط ضمن مهمّات تحالف حماية الازدهار، لتأمين الملاحة في البحر الأحمر إلى جانب مشاركة بريطانيا في هذه العمليات، فيما تسعى الإدارة الأميركية إلى تجريد الجماعة من أي مشروعيّة، حتى لو محلية، ومن ثم عزلها، مستفيدة من وضع اليمن بلداً يشهد حرباً، ومن ثم بلا سيادة، ومن ثم الشرعنة لعملياتها العسكرية في اليمن، إضافة إلى توجيه رسالة إلى إيران ووكلائها في المنطقة، بأنها قادرة على الردع.
وفي حين تعوّل الإدارة الأميركية على تعطيل القدرة العسكرية للجماعة، أو تحجيمها، فإنها ربما تغيّر مقاربتها حيالها، وأيضاً ربما لإدارتها الملفّ اليمني، بشكل أكثر شمولاً، سياسياً وعسكرياً، من تقوية خصوم الجماعة المحليين، أو على الأقل تحسين شروطهم السياسية مقابل الجماعة، إلى تحجيم الجماعة، بما في ذلك استهداف قياداتها الميدانية، وإن كان مرهوناً بتوسّع نطاق عملياتها مستقبلاً، والردّ الذي قد تتبنّاه الجماعة.
في الحسابات السياسية لجماعة الحوثي، يعضد استهدافها عسكرياً من أميركا من معركتها العقائدية والسياسية في اليمن، وفي الإقليم أيضاً، كقوة مناوئة لإسرائيل ولأميركا، وبأنها تدفع كلفه موقفها المناصر غزّة، وهو ما سيمكّنها من حشد تعبئة داخلية غير مسبوقة لصالحها، إلى جانب إدارة مجهود حربي وعسكري للردّ على الهجمات الأميركية.
بيد أن الاستثمار السياسي لعدوان خارجي، وإنْ شكّل عماد الجماعات في تجاوز تحدّياتها الداخلية، فإنه لا يُحسّن من شروط المعادلة العسكرية لصالحها، خصوصاً إن كانت مع قوى دولية، بحيث قد لا تكون في الأخير سوى مقامرة غير محسوبة النتائج، إذ يفرض الهجوم العسكري الأميركي على جماعة الحوثي معادلة جديدة تختلف عن المعركة التي كانت تديرها الجماعة في تهديد الملاحة في البحر الأحمر، ما يستدعي تغيير مقاربتها، إذ إن بدائية القوّة العسكرية للجماعة، سواء البحرية أو الجوية منها، مقارنة بأميركا، فضلاً عن قوات دولية متعدّدة، يجعلها الطرف الخاسر هنا، إذ إن أميركا، وإن حدّدت بنك أهدافها باستهداف المواقع التي تنطلق منها الصواريخ البالستية والمسيّرات التابعة للجماعة، فإن تنوّعها واتساع جغرافيتها، إذ شملت مواقع برّية وبحريةـ يعني تعطيل جزءٍ كبير من قوتها العسكرية.